قال الصديق معلقاً على الحوار الذي كان جارياً بين عدد من المثقفين في المقهى الثقافي حول الحاجة لتجديد الفلسفة وإحياء روح علم الكلام بمنطق جديد وبروح جديدة: - لم يفسد الأمة إلا مثل هذا الهراء الذي تسمونه فلسفة، أو كما كان يسميه القدامى علم الكلام، فقد كان ذلك سبباً رئيسياً في ضياع الأمة والتطاول عليها، بما آثاره المشتغلون بهذا الهراء من شكوك حول ثوبتنا الروحية، ولذلك أرى استبعاد أي كلام فلسفي من حياتنا مطلقاً، لينصلح حال الأمة. (هكذا). قلت للصديق موضحاً: - إن الفلسفة، هي محبة الحكمة وتعبر عن جوهر الأشياء وكنه الموجودات، فلماذا الخوف منها إذن؟ كما كان نشوء وتطور علم الكلام في المجتمعات الإسلامية تعبيراً عن حاجة فكرية ضرورية، وتكريسا ً للحرية وللتعددية الفكرية والاجتهادية. ولذلك عندما أقفلت الأبواب على مصادر العقلانية عندنا بغلق باب الاجتهاد وتحجير التكلم -انكفأت الحياة العمية والفكرية والسياسية معاً- وساد الجهل وخرجنا من دائرة الفعل الحضاري، وأنفقنا جل جهدنا في التقليد والحفظ والتكرار في أفضل الأحوال. بل وأخرجنا الدين الحنيف من الحياة، بعد أن كان لصيقاً بتفاصيلها اليومية، وجمدناه وأفرغاه من محتواه الحيوي. وزعمنا أننا بذلك نعظّمه ونرفعه. وأقمنا بيننا وبينه حواجز الخوف. وأطلقنا مقاليد الفعل لكل شيء ماورائي إلا للإنسان، فاستحوذ علينا الخوف وتهيب طرح الأسئلة وخوض مغامرة الفكر... ولذلك فإن طريقنا إلى الحرية يمرّ حتماً عبر تجاوزنا لهذا التصوّر المفتعل والجامد، من خلال إعادة الفعل للإنسان تجاه النزعات القدرية، والاعلاء من شأن العقل للتمييز بين الحسن والقبيح وتجاوز الظواهر إلى ما هو جوهري في الانسان والحياة، لأن الدين توحيد وعدل... قال مقاطعاً: - لقد أدى بنا هذا النوع من الفكر القائم على الكلام إلى مأزق، فماذا أنتم حريصون على الاستمرار في طريق الخطأ فهناك نماذج بديلة. أحد هذه النماذج مستمَد من حقول للمعرفة الدينية تقع خارج علم الكلام، أهمُّها تاريخ الأديان والعلوم الدينية القائمة والمعروفة. وكافة لدراسات الدينية الجيدة غير المشككة. هذه الدراسات تتناول الدين، في أصوله وفروعه وتشعباته بطريقة علمية، لا بأسلوب تشكيكي يمس الثوابت الروحية. أما حديثكم عن الحرية (المقدسة عندكم) فهو حديث مختل، لأن هذه الحرية ليست أثمن من الثوابت المقدسة لدينا. قلت للصديق: هذا النوع من الكلام فيه خلط متعمد بين أمور لا يمكن الخلط بينها. فالدين له مجاله الحيوي، والفكر الفلسفي له مجال آخر، فلماذا الخلط بين ما لا يمكن الخلط بينه وبين أمر آخر، إلا إذا كان القصد هو التشهير، كما كل مرة. أما الحرية فهي تعنى-يا صديقي-أن الحقيقة نسبية ومتطّورة، إذ أن الجمود لا يمكن أن يكون إلا مرادفاً لتوقف حركة العقل. والتوقف جمود، بل هو في النهاية عدو للحياة التي تسير في خط متصاعد يستوعب المتغيرات. فهي تتجدد يوميا، بما تحمله من تحولات في كل شيء تقريباً، بما في ذلك الحقائق والمعارف التي تتجدد يومياً. كما أن الحرية تتعارض مع النظرة الحرفية في الفهم والقراءة والمقاربة والتفسير والتأويل والاستنتاج. أما أحادية الفكر أو الرؤية فتؤدي حتماً إلى الجمود وتضييق الفسح المتاحة ربانياً أمام العقل الإنساني الذي يعتبر رسالة الله الأولى للإنسان، كما يقول المعتزلة. ومن هنا يأتي منطق تخطئة المخالف لرأيكم، وتكفيره وإقصائه، بينما الفكر متجدد، والمقاربات متعدد والمداخل لا محدودة، والتأويل إمكانات متعددة واحتمالات متناقضة ومتكاملة في تنوعها وتجددها، فلا مجال للرأي الواحد القاطع الحاسم والجواب النهائي. فالأسئلة - كما يقول الفيلسوف كارل ياسبيرس - أهم من الأجوبة، لأن كل جواب يطرح بدوره احتمالات أسئلة أخرى لا محدودة. ولذلك يبقى السؤال هو محو عمل الفلسفة، بل وهدفا من أهدافها الجوهرية، والدليل على ذلك أن الأجوبة التقليدية السابقة في العهود البعيدة، تجاوزها الفكر الإنساني بطرح أسئلة أخرى انطلاقاً مما أقرته الفلسفة التقليدية، فباب النقد والمراجعة مفتوح دائماً وأبداً. رد الصديق، وقد ازداد غضبه حدة: - معنى هذا الكلام أنه لا توجد ثوابت، ولا حقائق نهائية، وأن نبقى ندور في حلقة الشكك والتردد وعدم اليقين. أنا شخصياً لدي ثوابت لا أتزحزح عنها، ويقين لا يمسه شك، وليكن تعصباً لا يهمني. قلت: إن التعصّب لا ينشأ إلا من الاعتقاد بوجود حقائق نهائية ومطلقة وكاملة لا يشوبها الشك. فهذه النظرة الاطلاقية تؤدي إلى الاستبداد بالرأي، وإلى التعصب، وهي التي تحاكم المثقفين والمفكرين اليوم بسبب تأويلاتهم الخاصة، وهي التي تحرق الكتب، وتقتل المفكرين. في حين أن الذي لا يشك (الشك المنهجي العلمي)، لا يمكن له التواصل مع الآخرين، وأن يرى فيهم أقداراً متفاوتة من الصواب والخطأ. والذي لا يخامره الشك لا يمكن له ينقد نفسه أو يراجعها لأنه واثق من كل شيء ولا يحتاج رأيه إلى مراجعة أو تعديل. لأنه يعتقد أنه يحمل الحقيقة المطلقة والوحيدة. وأن دون هذا الرأي لأن يقف على تخوم خطوط النار. ووقد رأينا خلال السنوات القليلة الماضية كيف كان المتعصبون مستعدين للقتل والترهيب والإرهاب في ذات الوقت. لأنهم يرون المخالفين رأيهم او حتى غير المتحمسين له ضالين مضلين. وهذا ما أفضي لمحاكمة الفكر الحر، ومحاكمة المثقف عندما يتجرأ على أن يختلف مع السائد من القراءات والتأويلات الجاهزة والمنجزة والمنتهية، والأفكار المألوفة والأحكام المسبقة، أو عندما يتخلص من هيمنة الحقائق المطلقة بمراجعتها وتحويلها إلى حالة من النسبية القابلة للتجاوز. وتلك كارثة واستسلام لثقافة تهافت الفلاسفة. همس في كتابه «التفكير الذاتي»، يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل توزّي: «التساؤل هو أن يفكر المرء بنفسه، ويبحث عن أجوبة ملائمة لما غمض عنه، لا يستثني من ذلك حتى العلوم والرياضيات، التي تزعم إدراك الحقيقة الشاملة والكونية والموضوعية. فأن تفكر بنفسك، معناه أولا أن تطرح أسئلة. لنتعوّد على وضع نقاط استفهام في نهاية جملنا، كي نترك فسحة للتأمل، ونتيح له إثارة المسائل من جديد».
مشاركة :