تردد الحديث وطرحت التساؤلات في الآونة الأخيرة عن جدوى الجهود التي تقوم بها وزارة الداخلية في مناصحة معتنقي الفكر التكفيري الضال، ومدى فاعلية هذه الجهود في مكافحة الإرهاب والتطرف الذي يبدو أن انتشاره صار أكثر من انحساره. ولعل أكثر ما أثار هذه التساؤلات هو ما يتكرر الإعلان عنه في بيانات وزارة الداخلية من أن نسبةً من منفذي الأعمال الإجرامية الأمنية، هم من ذوي السوابق الذين خضعوا لبرنامج المناصحة، وأطلق سراحهم بعد انقضاء محكوميتهم، إلا أنهم عادوا إلى مستويات أشد خطورة، وأفعال إجرامية أكثر شناعةً مما كانوا عليه. ومثل هذه القضية الخطيرة لها حساسيتها العالية، وتأثيرها الكبير على واقع ومستقبل وطننا وأجيالنا القادمة، وتكاد تكون هي أعظم خطر يهدد أمن واستقرار الوطن، أكثر من أي عدو أو خطر آخر، ذلك أن مستوى الوعي والتماسك الشعبي لدى المواطنين، وقدرة الجهات الأمنية والعسكرية، أقدر على التصدي لأي عدوان من نوع آخر، صادر عن عدو خارجي مكشوف، منها على مثل هذا الخطر الذي يصعب تحديد مصادره، ويكثر المتعاطفون معه والقريبون من فكره، من الداخل. وأعتقد أن من يناقش أو يحاول الحكم على جهود المناصحة الفكرية التي تقوم بها وزارة الداخلية، من هذا المنطلق، قد يظلم هذه الجهود ويبخسها حقها كثيراً؛ لأنه لا يمكن الحكم على جهود المناصحة دون النظر إلى كافة العوامل المرتبطة بها، والتي لو تم تصورها على الوجه الصحيح، ومعالجتها، لأصبحت جهود المناصحة أقل تكلفة، وأكثر جدوى. وحتى يمكن لنا الحكم بشكل عادل وصحيح على جهود المناصحة يجب أخذ هذه الجوانب في الاعتبار وهي: أولاً: ليس غريباً أن تتميز المملكة – التي يقوم الحكم فيها على الشريعة الإسلامية، بأسبقيتها في تطبيق فكرة مناصحة معتنقي الفكر الضال، بالإضافة إلى تطبيق العقوبات الشرعية المستحقة عليهم؛ فأصل ذلك موجود في شريعتنا الإسلامية من خلال شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وما أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما من محاورته للخوارج التي رجع بسببها الآلاف منهم عن فكرهم. ثانياً: كما لا يجوز الغض من أهمية وجدوى المناصحة لمجرد انتكاس بعض من خضعوا لها ورجوعهم إلى ضلالهم؛ ذلك أنه يعتبر نجاحاً واضحاً أن تؤثر هذه المناصحة في نسبة كبيرة من أصحاب الفكر الضال، فتعيدهم إلى صوابهم، حتى لو كانت هذه النسبة النصف أو قريباً من النصف، فلئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم. ثالثاً: ينبغي أن نكون أكثر صراحةً وواقعيةً في النظر إلى الأسباب الحقيقية التي أنتجت هذا التشدد والغلو والضلال، وهل تمت معالجة هذه الأسباب والتضييق عليها، أم أنها ما تزال قائمةً وتأثيرها مستمر؟ وإذا كان كذلك فإن المناصحة وحدها لا تكفي، ما لم يضيق الخناق على أصل الداء، وأساس البلاء. ولعل أبرز أسباب زيادة التطرف والغلو ما يلي: - وجود تراث فقهي ضخم وكبير ممتلئ بأحكام التكفير، وتضييق دائرة الإسلام حتى لا تكاد تتسع إلا لأهل مذهب أو بلد دون غيرهم من المسلمين. وإذا ما رجعنا إلى الكثير من أحكام التكفير التي تعج بها بعض الكتب الفقهية، نجد أنها لا تستند إلى أدلة قطعية الدلالة والثبوت من الكتاب والسنة، ما يوجب على الفقهاء اليوم أن يعيدوا النظر في هذا التراث الفقهي، وأن يبينوا للناس الحق فيها، وأن يعيدوا قراءتها على أساس فهم شامل للإسلام، واستيعاب لمستجدات العصر. الأحداث التي تعج بها منطقة الشرق الأوسط خاصةً وغيرها من بلاد المسلمين عامةً من حروب ومظالم وانتهاكات لحقوق المسلمين على يد أعدائهم، وهو ما يحرض مشاعر الحماسة في أرواح كثير من الشباب، ويقودهم إلى ما لا تحمد عقباه من الالتحاق بكل حركات القتال المنتشرة في مواطن الصراع، التي تبدأ أحياناً بأعمال نضالية مقاومة من الشعوب المظلومة، ثم تتحول عندما لا ينصرهم أحد إلى ساحة تعج بالجماعات الضالة التكفيرية، التي تستغل كل ساحة قتال وفوضى لتحقيق أهدافها. وقد حذرت المملكة طويلاً وكثيراً من هذا الأمر الخطير، وصرخ خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – في ضمير العالم وأسماع قادته، بأن التخاذل الدولي في مساعدة الشعوب المظلومة، وغض الطرف عن إرهاب الدول، لا يقود إلا إلى مزيد من الإرهاب والتطرف والغلو، الذي إذا انتشر أهلك الحرث والنسل، وأتى على الأخضر واليابس. رابعاً: إن ما تكرر من رجوع بعض المنتسبين للفكر الضال إلى أعمالهم الإجرامية داخل وخارج المملكة، بعد إطلاق سراحهم لانقضاء محكوميتهم بالسجن، يدعونا إلى ضرورة إعادة النظر في الاجتهادات القضائية المعمول بها حالياً في محاكمة معتنقي الفكر الضال، وذلك بأنه قد لا يعد مناسباً الحكم عليهم بالسجن عدة سنوات، ليتم إطلاقهم بعدها وهم ما زالوا يشكلون خطراً على الأمة والدولة. ولا يمكن وضع وزارة الداخلية في موضع الحرج بمثل هذه الأحكام، حين تنتهي المدة المحكوم بها على أحد هؤلاء الضالين التكفيريين، بأن تطلقه ليمارس ضلالاته ويزاول إجرامه، أو تبقيه في السجن مع انتهاء محكوميته. وإن المخرج الشرعي من هذه الإشكالية واضح لا خفاء فيه، ولا أظنه يحتاج إلا إلى مجرد تقرير من العلماء، وقناعة من القضاة، ألا وهو: أن من المتقرر عند الفقهاء حبس صاحب البدعة الداعية إلى بدعته يحبس مؤبداً حتى ينكف شره عن الناس، إما بموته أو ظهور توبته، وقد نقل ذلك عن الإمام أحمد رحمه الله. بينما رأى بعض الأئمة أنه حتى صاحب البدعة غير الداعي لها يحبس أيضاً حتى تظهر توبته عنها. وبالنظر إلى معتنقي الفكر الضال، في تكفيرهم للمسلمين، وخروجهم على ولاة الأمر، واستباحتهم الدماء المعصومة، وسعيهم لزعزعة الأمن، وأنهم يستغلون مشاعر التدين والغيرة عند شباب وعوام المسلمين، فيلبسون عليهم الحق بالباطل، ويجتذبونهم لاعتناق هذه الأفكار الضالة، حتى اتضح قدرتهم على إغواء وإضلال آلاف الشباب، فإن ضلالهم وخطرهم أعظم من أصحاب البدع الذين أجاز الفقهاء حبسهم مؤبداً حتى الموت أو التوبة، خاصةً في ظل توافر الوسائل المتطورة التي تسهم في سرعة انتشار الفكر الضال، من أجهزة الاتصال والإعلام السريع. وعلى سبيل المثال أعيد القارئ الكريم إلى استحضار صورة الضال (وليد السناني) الذي أحسنت وزارة الداخلية في تعرية فكره وفضحه أمام الناس في المقابلة التلفزيونية الشهيرة، فهل يقال في أمثاله أنه يحكم عليهم بالسجن عدة سنوات، ثم يطلقون إلى نشر ضلالهم، وممارسة ما يسعون إليه من تدمير الأمن والاستقرار؟! أم أن الأليق بهم الحكم بسجنهم دون تحديد مدة حتى ينكف شرهم عن المسلمين، مع استمرار محاولات استصلاحهم ومناصحتهم، وإعادة تأهيل من لديه الاستعداد منهم. أسأل الله عز وجل أن يهدي ضال المسلمين، وأن يحفظ علينا أمننا واستقرارنا، والحمد لله أولاً وآخرا. * القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً لمراسلة الكاتب: maljathlani@alriyadh.net
مشاركة :