«نورما» لبليني: الحب الحارق أم العاطفة الوطنية؟

  • 6/29/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كان التناقض كبيراً بين موقفين من العمل الفني نفسه تفصل بينهما فترة من الزمن زاعتبرا متتاليين: الموقف الأول كان موقف جمهور الأوبرا الإيطالي الذي حين انتهى من مشاهدة العرض الأول لأوبرا «نورما» يوم 26 كانون الأول ديسمبر 1831 في «تياترو ديلا سكالا» وقف يصرخ شاجباً ذلك العمل «غير المقنع» بقوله: «لا يمكن أن نصدق هذا! إنه لفشل تام! إنه لفشل تام!». والموقف الثاني هو موقف الموسيقي ريتشارد فاغنر، أحد أعمدة فن الأوبرا في زمنه وفي الأزمان كلها، ففاغنر بعد أعوام قليلة، سوف يقدم «نورما» بنفسه في ريغا، ويقود الأوركسترا التي تقوم بالعزف فيها، على سبيل تكريم مؤلف الأوبرا، زميله الإيطالي فنشنزو بليني، معلناً أنه إذ يقدم هذه الأوبرا لا يكرّم بليني فحسب، بل يكرّم الجمهور نفسه أيضاً. والحال أنه، بصرف النظر عن موقف ريتشارد فاغنر، لم ينتظر النقاد والمعنيون طويلاً قبل أن يعارضوا رأي جمهور العرض الأول ويقرروا أن «نورما» واحدة من أهم الأعمال الأوبرالية التي كتبت في إيطاليا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، معتبرين أن واحداً من ألحانها (لحن «كاستادينا») هو أجمل لحن كتب ضمن إطار الأوبرا الإيطالية على الإطلاق. > والحقيقة أن هذا التناقض بين رأي الجمهور ورأي النقاد يمكن فهمه انطلاقاً من موضوع هذه الأوبرا الذي يمكن اعتباره استفزازياً في زمن كانت فيه المشاعر الوطنية بدأت تلتهب ماحية في طريقها كل ضروب العواطف الشخصية، بما في ذلك عاطفة الحب التي تشكل الموضوعة الرئيسة لـ «نورما»: الحب وما يحيط به من غدر وتضحية وكراهية وغيره وما إلى ذلك. وذلك بالتحديد لأن «نورما» هي عمل عن الحب، أوربرا أهم ما تقول لنا هو كيف أن الحب حين يستبد بصاحبه يعميه عن كل شيء آخر، بما في ذلك الواجب الوطني. > صحيح أن الموقف العام من التناقض بين الحب والوطنية، في «نورما»، يبقى ملتبساً، طالما أن هناك تناقضاً أساسياً بين مسار العمل ونهايته، ولكن صحيح أيضاً أن مجرد طرح الموضوع على تلك الشاكلة كان، من قبل بليني، خرقاً للأعراف ووصولاً إلى حافة الخطوط الحمر، أو على الأقل هذا ما رآه المتفرجون الإيطاليون في عمل اعتبروه مستفزاً لمشاعرهم الوطنية. غير أنه سيكون من المسيء لفنشنزو بليني الاكتفاء، في مثل هذا العمل، بالحديث عن موضوعه، فالموضوع هنا على رغم خطورته، لم يكن أكثر من ذريعة، لأن الأساس لا سيما في الفن الأوبرالي هو البعد الموسيقي. وما حدّة الموضوع سوى وسيلة لإيصال الموسيقى إلى أقصى درجات التوتر والتفاوت بين مشاعر الهدوء ومشاعر التهاب العواطف في نزعة رومانسية تخاطب دواخل النفس وأهواء الروح في شكل قد يحلم به أي موسيقي آخر. > تدور أحداث أوبرا «نورما»، التي تتألف من فصلين، قبل الميلاد بعقود عدة، في بلاد المغول التي كان الرومان يحتلونها ويسعى أهلها إلى التحرر من الاحتلال... وتبدأ تلك الأحداث مع زعيم المنطقة وراهبها الأكبر أوروفيزو وهو يقود قبائل «الدرويد» إلى الغابة المقدسة لكي يقدموا الأضاحي إلى القمر محاولين أن يستفتوه في شأن مصيرهم، طالبين في السياق نفسه من الآلهة أن تساعدهم على تحرير ديارهم من الرومان. غير أن الشيء الذي لا يعرفه الراهب الأكبر هو أن ابنته نورما مغرمة بالقنصل الروماني زعيم القوى المحتلة بوليوني، ولها منه ولدان، وأنها لهذا تقف متحفظة عن الدعوات الاستقلالية. وفي الغابة نفسها يحدث ذات ليلة أن يسر بوليوني لصديق له بأنه لم يعد مغرماً بنورما، وأنه يود التخلص من حبها، خصوصاً أنه الآن بات مغرماً بكاهنة أخرى هي أدالجيزا. وإذ تكون نورما لا تزال جاهلة موقف بوليوني الجديد هذا، تسعى إلى تهدئة الشعب وأبيها، طالبة منهما الصبر والانتظار. وإذ تتمكن من الوصول إلى ما تريد، تأتي إليها أدالجيزا منشرحة لتخبرها أنها هي بدورها مغرمة بقائد روماني من الأعداء، وأنها تطلب منها أن تبارك ذلك الحب، وأن تمنحها حق التخلي عن مبدأ العفة شرط الكهانة لكي تتبع حبيبها. وإذ توافق نورما بكل سعة صدر غير عارفة بمن يكون ذلك الروماني الذي تحبه أدالجيزا، يظهر حبيب هذه الأخيرة فجأة، فإذا به بوليوني نفسه. هنا تصعق نورما وتروح منددة بالحبيبين الجديدين. ثم حين تنفرد بنفسها ليلاً تبدي رعبها وخوفها وغضبها مما يحدث وتسعى إلى قتل ولديها انتقاماً من الحبيب الخائن، لكن عاطفة الأمومة تستبد بها فجأة فتقلع عن مشروع القتل، بل تستدعي أدالجيزا وتخبرها عن نيتها الانتحار، طالبة منها إذا تزوجت بوليوني أن تعتني بالطفلين. وهنا تدرك الكاهنة الشابة فداحة موقفها وتقرر الوقوف إلى جانب نورما والتوقف عن مجاراة بوليوني في حبه لها. وتقرر التوجه إلى بوليوني نفسه لكي تطلب منه أن يعود إلى حبيبته الأولى وأم أولاده رافضة حبه. > في تلك الأثناء يكون المحاربون الدرويد قد بدأوا يملون الانتظار ويطالبون الكاهن الأكبر بإعلان الكفاح، لكن هذا يهدئهم من جديد، بمعاونة ابنته نورما التي كانت لا تزال تأمل منتظرة ما ستسفر عنه مساعي أدالجيزا. وهنا تأتي الوصيفة كلاتيلد لتخبرها أن بوليوني رفض كل ما قالته له أدالجيزا، بل قرر أن يأتي الليلة ليخطفها ويتزوجها على رغم إرادتها، ويصطحبها معه إلى روما. هنا يجن جنون نورما وتجمع قوات المحاربين من أبناء شعبها، طالبة منهم الثورة وإبادة الرومان المحتلين عن بكرة أبيهم. وبالفعل، تقوم المعركة وينتصر الدرويد آسرين الكثير من الرومان. وأمام مفاجأة نورما يكون بوليوني واحداً من الأسرى، وما أن تعرف بهذا حتى تطلب أن يؤتى به إليها لكي تختلي به، فيتم لها ذلك، وهي ما أن تراه حتى تتحول مرة أخرى من كاهنة ومقاتلة عنيدة إلى امرأة عاشقة وإلى أم، فتركع أمام بوليوني متضرعة إليه أن يعود إلى حبها والى ولديه، فيرفض في شكل قاطع. وهنا لا يكون منها إلا أن تدعو المحاربين وتطلب منهم أن يهيئوا المحرقة لكي يتم عليها إحراق كاهنة خائنة، على الفور يخيل إلى بوليوني أن المقصودة إنما هي أدالجيزا، فيجزع من أجلها ويبدأ بالتفكير في كيفية إنقاذها، ولكن فيما يكون هو مستغرقاً في أفكاره والمحاربون يعدون المحرقة، تكشف نورما عن أنها هي نفسها التي تستحق الحرق وسوف تحرق، كاشفة عن سرها وعن حبها لبوليوني، ذلك الحب الذي خرقت في سبيله الأعراف وتخلت عن عفتها ككاهنة، ثم عن كرامتها كامرأة. فتأمر بأن يتم إحراقها طالبة من شعبها الرأفة بطفليها، ثم تعلن أنها، إذ يُحكم عليها بأن تحرق مع الرجل الذي أحبته، ستكون سعيدةٌ بذلك. وهنا يطغى على بوليوني شعور بالذهول أمام حب نورما وتضحيتها، فيطلب منها الصفح ويعلن أنه لا يزال يحبها، فيما يصعد إلى المحرقة ليموتا معاً. > عندما لحن بليني هذه الأوبرا كان في الثلاثين من عمره، وكان قد صنع لنفسه مجداً كبيراً جعل المؤرخين والنقاد يعتبرونه المؤسس الحقيقي للأوبرا الرومانسية الإيطالية في القرن التاسع عشر. صحيح أن الألحان في حد ذاتها، لم تكن في روعة أعمال أخرى كتبها بليني أو غيره في ذلك الحين، لكن التركيز على البعد الدرامي، البعيد من التزيين، كان كبيراً. بدا الأمر وكأن بليني أراد في هذا العمل أن يلخص ما كانت وصلته الموسيقى الأوبرالية حتى زمنه، أكثر مما بدا وكأن الموسيقي يريد أن يصل إلى انطلاقة جديدة. لكن المهم هنا القوة الدرامية التي عبّر بها بليني عن دواخل شخصياته وأهوائها بحيث قدم ما يمكن اعتباره أول استخدام حقيقي للموسيقى السيكولوجية. > ولد فنشنزو بليني العام 1801 في كاتاني في إيطاليا، وهو مات، مثل روسيني زميله ومعاصره تقريباً، في فرنسا، العام 1835. وبليني ولد ابناً لعائلة من الموسيقيين، ومن هنا كان من الطبيعي أن ينخرط في الموسيقى منذ صغره، إذ بدأ يكتب قطعاً دينية وهو في الثانية عشرة. وفي العام 1819 بدأ الدوق دي سان مارتينو يرعاه، ما أتاح له أن يبدأ مساراً مهنياً جدياً من المؤسف أن موت صاحبه باكراً قطعه في شكل مفاجئ. لكن على رغم ذلك لحن الكثير من الروائع، في مجال الأوبرا خاصة، إلى جانب «نورما»، مثل «أدلسون سالفيني» و«بياتريس» دي تندا» و«القرصان» و«الطهرانيون» و«السائرة نائمة»... إلخ.

مشاركة :