طَرَق رامي أبو شهاب مسألة الشتات الفلسطيني (كتاب صادر حديثاً عن دراسات-فكر بعنوان « في الممر الأخير– سردية الشتات الفلسطيني- منظور ما بعد كولونيالي – 358 صفحة) من خلال الخطاب ما بعد الكولونيالي المعني تحديداً بنماذج من الارتحالات الثقافية وارتباطها بالقيم الاستعمارية، مع الاعتراف بأن فلسطين لم تتجاوز بعد مرحلة «الما بعد» لكونها ما زالت خاضعة للاحتلال الكولونيالي الصهيوني، فاتكأ في دراسته هذه على عدد من الروايات وخاصة تلك الصادرة بعد العام 1990 «كونها تعكس تمثيلات الشتات، فضلاً عن روايات لكتّاب فلسطينيين من أجيال سابقة بهدف المزج بين المنظورين، مع الحرص على اختيار روايات لكتّاب من الداخل الفلسطيني ومن الغرب ومن دول الجوار العربي ورواية عربية لرضوى عاشور هي «الطنطورية»». ونتيجة بحثه هذا أفاض أبو شهاب في تصوير التباين بين مفهومي المنفى «الذي يشكّل جزئية من جزئيات خطاب الشتات، أو مظهراً من مظاهره» (ص39)، والشتات وهو» يُعّد من روافد خطاب ما بعد الكولونيالية، فالشتات نتج بفعل ممارسات استعمارية ساهمت بوعي ممنهج في إعادة إنتاج خريطة العالم السكاني جغرافياً وديموغرافياً» (ص39). ودعا الكاتب إلى تبني «خطاب الشتات بوصفه الأكثر نجاعة للتعبير عن وضعية الشعب الفلسطيني»، مستعيناً بما قدمه عالما الاجتماع وليم سافران وروبن كوهين حول السمات الخاصة بتكوُّن الشتات معرفياً، معدداً سمات الشتات الفلسطيني كالآتي: التشتيت والنفي تحققا بطريقة جارحة ومؤلمة، الابتعاد من الوطن بفعل عوامل اقتصادية أو استعمارية، التشتيت والتهجير يجب أن يشملا الشعوب (الأسلاف والأحفاد)، ينبغي وجود ذاكرة جمعية مشتركة ومنجزات وثروة تاريخية مادية، فضلاً عن أساطير وآداب عن الوطن الأصلي أو الوطن الأم، توافر الرغبة في العودة إلى الوطن نتيجة عدم تقبل وجود المشتتين في البلدان التي هاجروا إليها، النظرة المثالية (الطوباوية) إلى الوطن الأصلي وحلم عودة الأحفاد إليه في يوم ما، الالتزام تجاه الوطن والحرص على ازدهاره، الإحساس بالمسؤولية المشتركة والتعاطف مع أعراق أخرى من بلدان أخرى، وجود حياة أو مساهمة إبداعية مميزة في البلد المضيف، وأخيراً الدعوة إلى تفعيل السرديات الشخصية والجمعية، لا سيما حول الأصول العرقية بالتضافر مع وجود وعي مشترك قائم على التضامن (ص60-61). ويتبنى بعض الدارسين ملامح أخرى يشترك فيها الأفراد والشعوب من الذين تعرّضوا للشتات، وأهمها اللغة، بالتوازي مع بعث الذكريات واستحضارها بين الحين والآخر، والحرص على حمل شيء من الوطن كالمتاع والصناديق والصور إلخ... وقد جسّد المفتاح الفلسطيني رمزاً للعودة وبات أيقونة كما الكوفية بالأبيض والأسود أو شجرة الزيتون، مع تكريس نموذج خريطة فلسطين كالأيقونة الأعلى وسامة والتصاقاً بمشاعر أي فلسطيني أو عربي ما زال إيمانه قوياً بعدالة قضية الشعب الفلسطيني وخطر احتلال إسرائيل أرض فلسطين. بين شتات وشتات يحتوي الكتاب على أربعة فصول ومدخل وخاتمة، وعماده الشتات تشريحاً وتعريفاً ومن جوانب تاريخية «لأن الشتات الفلسطيني نتج بفعل الكيان الصهيوني الاستيطاني»(ص11)، ومُقارنة بالشتات اليهودي الذي أتقنت الصهيونية استثماره وبدعم جليّ من الغرب « لا سيما المسيحية الأوروبية والأميركية من حيث تأكيدها ارتباط التجوال اليهودي بالكتاب المقدس» (ص48)، وحصرها الأمر بأنه شتات يهودي لا غير إنكاراً منها لوجود شتات فلسطيني. هذا الإنكار وذاك الدعم الغربي لا نزال نلمسهما ونعايشهما يومياً في سياسات الإدارات الأميركية تحديداً ولا سيما مع حقبات المحافظين الجدد من الرؤساء رونالد ريغان (1980) إلى جورج بوش الابن واحتلاله العراق، وحالياً مع دونالد ترامب المتفاني في دعم إسرائيل، وارتباط هؤلاء بالمشترك من القراءة الأيديولوجية الدينية بينهم لمفهوم الصراع على أرض فلسطين. يؤكد أبو شهاب في ممره الأخير (والتعبير من قصيدة للشاعر الراحل محمود درويش) أهمية الذاكرة» التي لطالما راهنت إسرائيل على أنها «لن تصمد أمام الزمن»(ص99)، ومنها رهانها على تجاوز مفردات كالنكبة والنكسة، ومن بعد ذلك ردم مفردة المقاومة عبر إبدالها بالعمل السياسي (ص100)، ما يدعونا إلى التوقف أمام هذا الهذيان المُسال بحبر أقلام بعض كتّاب الرأي العرب والمحللين والمعلقين بالصوت والصورة لمساهماتهم في مواكبة هذا التجاوز وذاك الردم! فاحتلت النكسة (العام 67) –على سبيل المثال- من الكتابات وتفريغ الأفكار والحناجر في المؤتمرات والندوات والإصدارات وعلى مدى عام مضى ما لم تحصل عليه آلام وآمال دماء أبناء التظاهرات الفلسطينية في ذكرى النكبة بأعوامها السبعين»، وهو ما نلحظه في تكرار دعوة أبو شهاب إلى «تفعيل البحث والكتابة عن الشتات الفلسطيني ضمن تصورات الخطاب، آلياته واستراتيجياته وبما يحتمله من قدرة على التحوُّل إلى ممارسة»، ما يدعو إلى التوقف أمام تجربة المفكر إدوارد سعيد الذي «تمكّن من التأسيس لخطاب الوعي الفلسطيني في السياق العالمي عامة» (ص30). نماذج خطابية وإذ يقرأ أبو شهاب في الفصل الثالث في النماذج الخطابية للشتات الفلسطيني، فإنه يشير إلى «أن الرواية الفلسطينية المعاصرة تواجه عدداً من التحديات التي تتمثل بمحاولات خلق مسارات كتابة جديدة، أو بعبارة أخرى البحث عن خطاب جديد للتعبير عن أزمة الوجود الفلسطيني» (ص128)، مع استدراكه أن «الرواية الفلسطينية ما زالت تزخر بروائيين على قدر كبير من الأهمية، نجحوا في خلق نسق متمم لأعمال جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني وإميل حبيبي»، مع اعترافه بصعوبة «أن تغادر المروية الفلسطينية مركز ثقلها الخطابي في ظل عدم تحقق التحرر أو تبلور مشروع للتحرر الوطني، كما عودة اللاجئين إلى أوطانهم، ولهذا يناط هذا الدور المتمثل بالتمسك بالوطن ورحلة التحرر إلى الأجيال الفلسطينية والفلسطينيين المشتتين في مواقع أخرى» (ص328). نماذج من عدد من الروايات لعدد من الروائيين الفلسطينيين يُخضِعُهَا الكاتب للتمحيص، بما يسند ويرفد أدوات بحثه، فيقرأ في الخروج، الذاكرة، الوعي بالاقتلاع، التجزؤ، الصدمة، مرويات الخروج، النوستالجيا، الأسلاف والأحفاد، هويات رمادية، إشكاليات التنازع والاندماج والتكيف، عوالم رمادية، بينية الهوية، الهُجنة، الشتات والأنسنة، اللغة والكتابة، الإنشاء الشتاتي، أوطان مُتخيلة، حدود الكتابة، اللغة والشتات، تقويض الشتات، نفي الشتات، العودة الارتداد، المقاومة، طباق، وكلها شكّلت عناصر سردية الشتات الفلسطيني في إبداعات روائييه وشعرائه وفنانيه من سينمائيين، وتشكيليين، وموسيقيين، ومؤتمنين على الفولكلور الفلسطيني بكل محتوياته الشعبية والفنية والتأريخية لشعبٍ يسعى للخروج من «الممر الأخير»، «فالشتات الفلسطيني ينذر بعملية إنهاء فكرة الفلسطيني، وليس فقط الوجود الفلسطيني»(ص63). * صحافية لبنانية
مشاركة :