قلنا دائماً إن هوليوود لا تتوقف عن حلب البقرة، ونقصد بذلك الرغبة الشديدة للاستوديوهات في استغلال نجاح أي فيلم لصنع جزء ثانٍ وثالث، واستنساخ النجاح. غالباً المحاولة الثانية لا تصيب الهدف إلا من الناحية الربحية، أما بقية جوانب العمل الفني المكرر ففي الحضيض. «رجل المخدرات» من زوايا مختلفة ارتبط ديل تورو بأدوار المخدرات، منذ دخوله إلى السينما في الثمانينات من زوايا مختلفة، ففي فيلم جيمس بوند Licence To Kill عام 1989 ظهر في دور رجل عصابة يسحق في آلة صنع مخدرات، وفي فيلم The Usual Suspects عام 1995 كان يسرق مخدرات، وفي فيلم Fear and Loathing in Las Vegas عام 1998 كان يأخذ المخدرات، وفي فيلم Traffic عام 2000 كان الشرطي الذي يحاول إيقاف المخدرات، وفي Savages عام 2012 كان موظف عصابة المخدرات، وفي فيلم Escobar: Paradise Lost عام 2014 كان يبيع المخدرات، وفي «سيكاريو» عام 2015 كان يطارد عصابة مخدرات. الفيلم يأتي وسط أزمة عدم تسامح ترامب مع دخول المهاجرين المكسيكيين. كل استديوهات هوليوود تكرر بلا استثناء، ومعظم الأجزاء التالية هي لأسماء معروفة؛ لكن الغريب جداً صنع جزء ثانٍ لفيلم انتهت قصته، وحقق أبطاله أهدافهم، ولم يحقق الفيلم الرقم المطلوب لصنع جزء ثانٍ. الحالة الغريبة الماثلة أمامنا هي فيلم Sicario: Day of the Soldado أو «سيكاريو: يوم الجندي»، علماً بأن سيكاريو تعني قاتلاً مأجوراً. الأغرب أن الفيلم يستغل عامل التوقيت بذكاء، ليطرح موضوعه المتطابق مع ما يحدث اليوم في الولايات المتحدة. الفيلم من تأليف الممثل والكاتب تايلر شيريدان، الذي صنع لنفسه اسماً من خلال أعمال عدة مميزة جداً، مثل فيلم «سيكاريو» عام 2015، تلك التحفة الكلاسيكية التي أخرجها الكندي البارع دينيس فيلنوف. «سيكاريو» تناول العلاقة المعقدة بين الحكومتين الأميركية والمكسيكية، التي تعاني أزمة الحدود الجنوبية مع عصابات المخدرات. «سيكاريو» كان مثالاً فريداً من نوعه للفيلم السياسي الظلامي. ثم بعد ذلك كتب شيريدان رائعته الويسترن Hell or High Water عام 2016، وأصبح الأمل الوحيد في هوليوود لإعادة إحياء أفلام الكاوبوي (رعاة البقر) الحديثة. العام التالي كتب شيريدان وأخرج للمرة الأولى فيلم Wind River الجيد جداً نصاً؛ لكن لم يتمتع بالرؤية الإخراجية التي تليق به. واليوم عاد ليكتب «سيكاريو» الثاني، وبتعاون مع مخرج إيطالي غير معروف في دوائر هوليوود، وهو ستيفانو سوليما، صاحب المسلسل الشهير Gomorrah. العودة إلى «سيكاريو» قد تعتبر حالة خاصة استثنائية هنا، ونقول إنها جريئة، لأنها محاولة توسيع عالم وإعادة استكشافه ليقين الكاتب والمخرج بوجود موضوعات مهمة، يريدان طرحها لاتساقها الكامل مع المناخ السياسي المحبط والمضطرب، الذي تعيشه الولايات المتحدة الأميركية هذه الأيام. مهمة سرية يبدأ الفيلم بهجوم إرهابي على طريقة «داعش» في «سوبرماركت» بمدينة كنساس، ثم ننتقل إلى الضابط الغامض مات غريفر (جوش برولين في ثالث فيلم له هذا الصيف بعد «أفنجرز» و«ديدبول 2»)، يستجوب مشتبهاً في الصومال، ثم نعلم أن مهاجمي كنساس دخلوا الولايات المتحدة عن طريق مهربي المخدرات، الذين امتهنوا تهريب البشر عبر الحدود الأميركية - المكسيكية. تسند الحكومة الأميركية مهمة سرية إلى غريفر، وهي إشعال حرب بين أكبر عصابتين في المكسيك بطريقة بسيطة الفكرة وغير هيّنة التنفيذ: قتل محامي عصابة، وإبلاغها بأن الأخرى فعلت ذلك، ثم اختطاف ابنة زعيم العصابة الأخرى، وإبلاغها بأن العصابة الأولى فعلت ذلك انتقاماً لمقتل محاميها، وهكذا تشتعل حرب شوارع بين العصابتين، فتنشغلان بالقضاء على بعضهما بعضاً، ما قد يساعد على القضاء على مشكلة التهريب على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة. يلجأ غريفر للتعاون مع مصدره القوي أليخاندرو (بينيسيو ديل تورو- قلنا في وصف شخصيته في قراءتنا الجزء الأول: مرعب لدرجة أنك لا تريد العبث معه حتى وهو نائم، وهو هنا كذلك أيضاً)، حيث إن الاثنين يتفقان على حقيقة واحدة: اللعبة القذرة وحدها تحقق الهدف. هناك أيضاً قصة فرعية عن مهرب مكسيكي على الجانب الأميركي يجنّد قريبه ميغيل (ألايجا رودريغيز) للعمل معه، وهو المقصود بالجندي في العنوان، وقصة إيزابيل ريز (إيزابيلا مونر) ابنة زعيم العصابة المختطفة، التي ستتفرع لتأخذ خطاً شبه مستقل. كلهم فاسدون «سيكاريو» الأول والثاني ليسا عن رجال صالحين يقاتلون للحفاظ على أمن بلادهم، بل لا يوجد بطل حقيقي في الفيلم الذي يعتمد بشكل أساسي على رجال فاسدين على طرفي القصة: أميركيون ومكسيكيون. فكما تعالج عصابات المخدرات في الجزء الأول، وعصابات تهريب البشر في الثاني، مشكلاتها بالعنف المفرط، فإن رجال إنفاذ القانون في الجانب الأميركي قذرون أيضاً، ولا يعترفون بوجود القانون، بل يستغلونه بذكاء كغطاء لتنفيذ عملياتهم، وهذه الجزئية تحديداً كانت سبباً لوجود شخصية كيت ميسر (إيميلي بلنت) في الأول وغيابها عن الثاني، الذي ليس بحاجة إليها وهو أفضل دونها. يتوسع الفيلم في استكشاف شخصيتيه الرئيستين: غريفر بقوة أداء وكاريزما برولين، وإليخاندرو بإظهار جوانب أخرى إنسانية، بعيداً عن القساوة التي عرفناها عنه، ويتضح ذلك أكثر وسط الفيلم عندما تسوء الأمور. من ناحية أخرى، حتى شخصية إيزابيل تتغير من فتاة متمردة تخيف مدير مدرستها، إلى أخرى تعيش رعب تجربة الاختطاف، وتعلق في تبادل إطلاق نار بين عصابة والدها ومختطفيها، أو ربما هم منقذوها! ثم تدخل شخصيتها طوراً آخر، عندما تضطر لمرافقة أليخاندرو. لا قوانين هذه المرة إمكانية نجاح «سيكاريو 2» تأتي وسط أزمة تعصف بواشنطن، جراء عدم تسامح الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع دخول المهاجرين المكسيكيين بصورة غير شرعية، خصوصاً أولئك الذين يصطحبون معهم أطفالهم. رغم أن فصل الأبناء عن والديهم أثار احتجاجات منظمات حقوق الإنسان، فإن «سيكاريو» لم يأتِ ليعالج المشكلة، ورغم أنه يعكس وجهة نظر تحذر من العبث بأمن أميركا، فإنه في مشهد واحد تقول إحدى شخصياته: «لا قوانين هذه المرة». المقصود لا قوانين في التعامل مع مشكلة الحدود، وهو ما قد يبدو نوعاً من التأييد لوجهة نظر ترامب. «سيكاريو: يوم الجندي» لا يبدو مجرد جزء ثانٍ، لكن مقدمة لأفلام سيكاريو جديدة تتركز حول تلك الشخصيات الفاسدة الشريرة وتفاعلها مع أخرى جديدة، وكيفية إدارة العمليات القذرة في منطقة الحدود التي ظهرت منفلتة، كأنها تقع خارج أميركا. سردياً، شيريدان وسوليما صنعا «سيكاريو 2» أقرب إلى صيغة تلفزيونية منها إلى سينمائية، خصوصاً من ناحية تشعب القصص ودفع الحبكة وعلاقات الشخصيات باتجاه المزيد من التعقيد بدلاً من إنهائها، وهذا ما قد يبشر بنموذج جديد للعمل في السينما تأثراً بنموذج التلفزيون. بكلمات أخرى: «سيكاريو: يوم الجندي» قد يعيد كتابة تاريخ عملية صنع الأجزاء التالية في صناعة السينما.
مشاركة :