لا يتوانى أهل الرياضة عقب كل حادثة إقحام للسياسة في الرياضة على التأكيد بأن أهداف هذه الأخيرة أبعد ما تكون عن غايات الأولى، ولطالما سمعنا من القائمين على شؤون الرياضة في العالم؛ وفي مقدمتها كرة القدم، أنه "لا ينبغي إقحام السياسة في كرة القدم ولا كرة القدم في السياسة... ثمة هناك مشاكل سياسية بين الدول في مختلف أنحاء العالم، لكن يجب ألا ينسحب ذلك على كرة القدم".عند كل حدث رياضي عالمي أو إبان اندلاع أزمة سياسية طارئة تتردد مقولات جاهزة للجمهور من قبيل أن الرياضة أداة للتقريب بين الشعوب، وتعزيز السلام والمحبة بين الأمم. ولطالما رسخت كليشيهات الخطاب العام، في المؤتمرات والملاعب، في عقول العالم أن سحر الألعاب الرياضية أقدر على تجاوز الحدود والحواجز من الصواريخ العابرة للقارات، وأن الروح الرياضية أرقى من العقيدة القتالية لأعتى جيوش الأرض.بيد أن هذه الشعارات البراقة والطنانة في أذان الجماهير، لا تصمد طويلا أمام حقيقة الاختراق السياسي للرياضة، فالنبش في التفاصيل يظهر بجلاء أن السياسة تسدد أهدافا في شباك الرياضة، ما يعيد إلى الواجهة سؤالا عريضا عن المسافة الفاصلة بين ملاعب الرياضة وميادين السياسة؟ لم يعد خافيا الآن أن القوى الكبرى في العالم قد نقلت صراعاتها من منابر السياسة إلى ميادين الرياضة، ولم يعد خافيا أن "الحرب الباردة" أو "الحرب بالوكالة" التي تجددت في أكثر من ساحة مواجهة بالذخيرة الحية، تمددت إلى ميادين الرياضة. فعلى سبيل المثال أضحى التنافس على رئاسة الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" لا يقل أهمية عن الصراع على رئاسة منظمة الأمم المتحدة، وبات التباري بين الدول على نيل شرف استضافة نهائيات كأس العالم، لا يقل ضراوة عن الصراع على تحقيق اختراق، وكسب مناطق نفوذ جديدة، في مناطق النزاع بالعالم.صحيح أن منظري الألعاب الرياضية بمختلف أنواعها كانوا مؤطرين بفلسفة مفادها الحرص على إبعاد الرياضة عن حسابات الانتماء السياسي أو الاعتقاد الديني أو التمييز على أساس الجنس أو النوع. لكن من خلال الممارسة؛ ومع التطورات المتلاحقة، بدأت هذه الحسابات تنسل تدريجيا إلى عوالمها حتى أضحت المحرك الجوهري لها، والفاعل الأساسي فيها.تاريخيا، كانت ملاعب الرياضة مسرحا استغله عديد من النجوم بغية تمرير رسائل سياسية ضد كل القوانين والأعراف، وغصبا عن الجماهير، حيث تستغل المباريات الحاسمة التي تحظى بمتابعة كبيرة، للكشف عن أفكار ومواقف لا علاقة لها بالرياضة. لم يقتصر الأمر على الأفراد، بل امتد ليشمل زعماء وأنظمة، اهتدت إلى ملاعب الرياضة لتسجيل مواقف سياسية على الصعيد الدولي.ليس من المبالغ في شيء القول بأن المشاحنات السياسية حاضرة على الدوام؛ وإن بدرجات متفاوتة، في تاريخ مسابقات كأس العالم. فمنذ الدورة الأولى سجلت إنجلترا موقفا سياسيا حين قررت مقاطعة دورة الأروجواي عام 1930، معتبرة نفسها الأَولى باحتضان الدورة لأنها صاحب الفكرة.حضرت السياسية من جديد في الدورة الثانية، بروما عام 1934، إبان الحكم الفاشي من قبل موسوليني، الذي استغل احتضان بلاده لكأس العالم للقيام بحملة دعائية للفاشية، من خلال الحرص على مشاهدة كل مباريات منتخب إيطاليا. وبلغ الاستغلال درجة التأثير على التحكيم غير العادل، الذي لعب دورا عظيما في فوز إيطاليا بهذه الكأس.أرخت الحرب العالمية الثانية بظلالها على دورة 1938 بفرنسا، حيث ظهرت علامات التوتر في كل مكان، خاصة عندما وقعت النمسا في قبضة ألمانيا النازية. وتجدد أسلوب المقاطعة من قبل الأرجنتين هذه المرة، حيث كانت تطمح إلى نيل شرف التنظيم. وفي عام 1950 نظمت البرازيل البطولة، وقامت اللجنة المنظمة باستبعاد ألمانيا الغربية بسبب الحرب العالمية الثانية، كما كان للسياسة الشيوعية دور في عدم مشاركة روسيا والمجر.وفي عام 1970 لم يشارك كثير من الدول العربية والآسيوية في المنافسات المؤهلة للبطولة، احتجاجا على إشراك إسرائيل في المجموعة الآسيوية. وفي نسخة 1994 بالولايات المتحدة الأمريكية، عادت السياسة للتدخل في عالم الرياضة حيث أجمع المجتمع الدولي على حرمان يوغوسلافيا من الاشتراك في التصفيات بسبب الحرب هناك.بعيدا عن الأنظمة والدول، ما أكثر الحوادث التي تؤكد إصرار الأفراد على إقحام السياسة في الألعاب الرياضية. تعد حادثة الثاني الأمريكي تومى سميث وجون كارلوس؛ في مجال ألعاب القوى بالمكسيك عام 1968 إحدى أولى الحوادث بهذا الشأن، حيث رفض هذا الثنائي الأسمر تحية العلم الأمريكي. وفي المقابل رفع شارة "القوة السوداء" التي كانت تندد بالعنصرية في أمريكا، وكانت السبب لعقوبة رادعة في حقهما، تجلت في سحب الميداليتين الأولمبيتين منهما. وحديثا تعد واقعة إيقاف اللاعب اليوناني جيورجوس كاتيديس مدى الحياة، وحرمانه من اللعب مع أي من المنتخبات اليونانية، بعد قيامه بالتلويح بالإشارة النازية أثناء مباراة فريقه أيك أثينا في الدوري اليوناني، أبرز صورة لرفض إقحام السياسية في الرياضة.الجمهور بدوره يساهم في إضفاء مزيد من السياسية في الرياضة، فغير ما مرة تعمد جماهير الأندية الإيرانية استفزاز الأندية الخليجية بلافتات تحمل عبارة "الخليج الفارسي" بدل الخليج العربي، في المباريات التي تقام بينهم في إطار بطولة الكأس الآسيوية. كما أن الجمهور كان السبب وراء تحول مباراة رياضية بين المنتخبين المصري والجزائري في نوفمبر 2010 من مجرد تنافس كروي على بطاقة التأهل إلى مونديال جنوب إفريفيا إلى أزمة سياسية بين حكومتي البلدين.صحيح أن الأصل في الرياضة هو تعميق أواصر الأخوة والصداقة بين شعوب العالم، في إطار التنافس النزيه بكل روح رياضية، والعمل على تمتين العلاقات بين مختلف الأجناس، بعيدا عن السياسة والدين والعرق والجغرافيا، لكن الواضح أن هذا الهدف النبيل يغتصب في كل مرة، وتنتهك حرمته بالعمل على تحويل الملاعب والقاعات الرياضية إلى فضاءات لتفريغ الاحتقان السياسي، وتصريف المواقف بين الأنظمة، وتصفية الحسابات بين الدول، ولطالما تدخلت القرارات والرغبات السياسية في العمل الرياضي واستخدمت الأنشطة الرياضية لغايات شتى.
مشاركة :