بعد دخولها نهائيات كأس العالم لكرة القدم من الباب العريض من خلال تطبيقها للمرة الأولى في التاريخ، باتت تقنية المساعدة بالفيديو في التحكيم (في.أي.آر) محط انتقادات شديدة عقب حسمها في نتائج مباريات رآها مراقبون ومشجعو الفرق الرياضية غير عادلة، ففي الوقت الذي أشادت فيه الأندية المنتشية بالفوز بأن تقنية الفيديو تصنع الفارق في دور المجموعات الأكثر ندية في تاريخ المونديال، إلا أن الفرق المنهزمة تندد بحكم الفيديو وتسلط الضوء على مدى تأثير التكنولوجيا على شفافية الرياضة، وتضع أخلاقيات الرياضة الأكثر شعبية تحت المساءلة. لندن – عندما قدمت لعبة الكريكت نظام مراجعة القرار منذ ما يقرب من عقد من الزمان، كان الاعتقاد الأصلي هو أن اللاعبين هم من سيحصلون على الفائدة الكبرى، حيث كانت لكل فريق فرصتان لمراجعة قرار الحكم وتقديمه للمراجعة التلفزيونية وبذلك يتم تحقيق الإنصاف. لكن مع دخول النظام الجديد حيز التطبيق، تبين أن الحكام وقعوا في الخطأ طوال الوقت، فيما تغاضى اللاعبون عن ذلك راضخين لقوانين اللعبة. وكشفت إعادة المشاهدة والتحليلات التي تقوم بها تكنولوجيا “عين الصقر” -وهي عبارة عن تقنية مرتبطة بنظام كمبيوتري يستخدم طريقة المحاكاة لما يحصل في الواقع للرياضات التي غالبا ما يكون فيها تعقب للكرة- عن تحيز جوهري ضد رماة الكرة، الذين تم حرمانهم بشكل منهجي من قرارات نظام “الساق قبل الويكيت” ضد حاملي المضرب، الذين يلعبون على القدم الأمامية. وكانت نسبة جيدة من هذه الكرات في الواقع تلامس رأس المضرب. وتستعمل هذه التكنولوجيا في عدة رياضات مختلفة أهمها كرة المضرب، والكريكت، وقد تم استخدامها لأول مرة في مباراة للكريكت بين منتخب إنكلترا وباكستان في مايو 2001. لكن في الوقت الحالي، بدأت قرارات نظام “الساق قبل الويكيت” في تزايد، وقد خضع لها أشهر لاعبي هذه الرياضة، مثل لاعب الكريكت الإنكليزي غريم سوان. وعلى الرغم من أنه في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، فشلت حالة من كل ثماني حالات في الاختبارات، إلا أنه في العقد الحالي ارتفعت هذه النسبة لتصل إلى أكثر من واحد من كل ستة اختبارات. جوناثان ليو: "في.أي.آر" يمنحنا فرصة رؤية مباريات كرة القدم ليس بالطريقة التي فُرضت علينا، وإنما بالطريقة التي تجري بها المباراة في الحقيقةجوناثان ليو: "في.أي.آر" يمنحنا فرصة رؤية مباريات كرة القدم ليس بالطريقة التي فُرضت علينا، وإنما بالطريقة التي تجري بها المباراة في الحقيقة وبالنسبة لأبرز اللاعبين في العقد الحالي، رانجانا هيراث ورافي أشوين، كانت النسبة حوالي واحد من كل أربعة. وفي السنوات الأخيرة، على العكس من ذلك، يبدو الأمر وكأن حاملي المضرب قد بدأوا في التأقلم، ووقفوا مدافعين عن مرمى الهدف ممسكين بالمضرب أمامه بدلاً من وقوفهم إلى جانب الهدف، مستخدمين أقدامهم على الأرض بشكل أقوى، واللعب بشكل أكثر استباقية. والآن لا نجد سوى القليلين ممن يختلفون في الرأي عن كون اللعبة أصبحت أكثر ثراء وعدلاً، وأكثر إثارة للمشاهدة. لكن القضية الرئيسية، حسب الكاتب الرياضي في صحيفة الأندبندنت جوناثان ليو، أنه حتى في الرياضة، قد تؤدي بعض التغييرات في اللعبة إلى حدوث عواقب أبعد بكثير من نواياها الأصلية السليمة. إذ أن هذه التقنية البسيطة التي تساعد الحكام على اتخاذ قرارات أكثر صواباً يمكنها في نهاية المطاف أن تعيد تشكيل أساسيات اللعبة بشكل كامل، لكن لا يعني أنه تشكيل عادل ومنصف للجميع. ولعل ما أحدثه الالتجاء الى تقنية حكم الفيديو المساعد “في.أي.آر” في كأس العالم في موسكو من مفاجآت حسمت نتائج المباريات، يجعل الكثير من المراقبين يشككون في مصداقية هذه التقنية. تم اللجوء إلى تقنية حكم الفيديو المساعد في التحكيم للمرة الأولى في تاريخ كأس العالم، وذلك خلال مباراة فرنسا وأستراليا، في قازان ضمن المجموعة الثالثة من مونديال روسيا 2018. وكانت هي المرة الأولى تستخدم فيها هذه التقنية، بعدما أقر الاتحاد الدولي (فيفا) في وقت سابق من هذا العام، اعتماد التقنية المثيرة للجدل في أبرز بطولاته، بدعم مباشر من رئيسه السويسري جاني إنفانتينو. ويمكن استخدام تقنية حكم الفيديو المساعد في 4 حالات: بعد إحراز هدف، وعند احتساب ركلة جزاء، وعند رفع بطاقة حمراء مباشرة، أو في حال وقوع خطأ بالنسبة لهوية لاعب تم إنذاره أو طرده. وفي مونديال روسيا، تم اعتماد 13 حكما ليكون عملهم حصريا خلف شاشات المراقبة في مركز تحكم مركزي في العاصمة موسكو، وقد يتحول أيضا 35 حكما من الأساسيين إلى حكام فيديو لمباراة واحدة أو أكثر. وفي نهاية مرحلة المجموعات، تم منح 24 ركلة جزاء في مونديال روسيا، لتحطم الرقم القياسي السابق في كأس العالم، من بين هذه العقوبات، اشتملت سبع على مراجعة للفيديو، كما تم إلغاء 14 قرارًا بشأن المراجعة، في حين أكد ثلاثة من الحكام قرار الحكم الأساسي في الملعب. وبحسب مجلس الاتحاد الدولي لكرة القدم، الذي يسن قوانين اللعبة، للحكم وحده حق طلب مراجعة اللقطة عن طريق الفيديو. يقوم أحد حكام الفيديو بعد رؤية حادث معين، بإبلاغ الحكم الأساسي الذي يقرر مراجعته أو عدم مراجعته. ومن الواضح أن هذه التقنية ليست خالية من العيوب، وأيضا قد يكون ثمة قلق من أن استعراض عمليات إعادة الإبطاء يمكن أن يجعل الحوادث التي تحدث في المباراة تبدو أسوأ مما هي عليه، كما أن هذه التقنية قد تؤدي أيضا إلى إرباك الجماهير في الملعب، لكونها لا توفر إطلاعا كافيا بقدر المتابعين عبر شاشات التلفزيون. وبذلك تنكشف عيوب العمل بنظام حكم الفيديو المساعد، وبات التعامل معه كما لو كان كائنًا حيًا له شعور بالآداب والأخلاق الخاصة به، وليس مجرد شريط يمشي ببطء وتتم مراقبته في غرفة مظلمة من قبل بعض الحكام من مختلف الجنسيات. تأثير كارثي النقطة الأولى التي يجب ملاحظتها هي أن كرة القدم هي رياضة يمكن أن يتسبب أي تغيير بسيط فيها في إحداث تأثير كارثي، مثلما حدث بعد مراجعة قانون التسلل في عام 1925، والذي أعقبه أحد أشهر المواسم وأكثرها جدلا في تاريخ الدوري الإنكليزي. ويتوقع جوناثان ليو أن تقنية حكم الفيديو المساعد سرعان ما ستؤدي إلى القضاء على بعض ممارسات رياضة كرة القدم، منها أن التعديات غير العنيفة على الكرة يتم تمريرها من دون عقاب، وأن الشك في الاحتكاكات التي تتم في منطقة الجزاء تذهب فائدة الشك فيها عمومًا لصالح الفريق المدافع. لكن التصعيد في منطقة الجزاء سيتلاشى في النهاية، وسيصبح من الصعب جداً اعتراض لاعب مهاجم في المنطقة؛ وهكذا بمرور الوقت، ستزداد أهمية “تمرير الكرة”، وقد تصبح، في الواقع، إحدى أكثر الطرق الرئيسية لتسجيل الأهداف. لكن بالطبع، لن يتوقف الأمر عند هذا الحد. فعندما تصبح ركلة الزاوية سلاحًا قويًا، قد تحاول الفرق المهاجمة جاهدةً الفوز بها. وقد تسعى فرق الدفاع، التي أصبحت الآن شديدة الحذر من إبعاد ركلات الزاوية أو الركلات الحرة عن قرب، إلى الدفاع بشكل أعمق وبأعداد أكبر. ويمكن من خلال ذلك أن تعود طريقة اللعب الكلاسيكية عبر الكرات الطويلة مجدداً، حيث تسعى الفرق إلى إثارة الفوضى على أرض الملعب وربما إلى ربح ضربة جزاء. وعلى المدى المتوسط، من المتوقع أن يتكيف المدافعون وأن يطوروا طرقاً جديدة وأكثر تعقيدا لوقف هجمات الخصم دون الحاجة إلى الظفر بالكرة. في هذه الأثناء، من الممكن رؤية المزيد من الضربات الحرة (الفاول)، حيث أن الفائدة التقليدية للشك الذي عادة ما يصب في مصلحة المدافع تجعل الموقف الدفاعي “وضعا غير طبيعي”. وبالفعل، فإن إعادة مشاهدة أي حادثة في حركة بطيئة تعمل على توضيح الرؤية لكل ثانية فيها، ويبدو حتى لمس الأكتاف البسيط كأنه اعتداء عنيف. ووفقًا لفيفا، أسهمت تقنية الفيديو في جعل مصداقية قرارات التحكيم في كأس العالم تصل إلى 99.3 بالمئة. وكشف الحكم الدولي الإيطالي السابق بيار لويجي أنه تم التحقق من 335 حالة باللجوء إلى تقنية حكم الفيديو المساعد خلال 48 مباراة في دور المجموعات، أي بمعدل 6.9 حالات في المباراة الواحدة، بينها جميع الأهداف التي سجلت (122 هدفا) في دور المجموعات. وأوضح الاتحاد الدولي أن نسبة القرارات التحكيمية الصحيحة في الحالات الـ335 بلغت 95 بالمئة، لكن تغيير القرارات في الحالات الـ14 التي تم فيها اللجوء إلى تقنية حكم الفيديو المساعد رفع نسبة القرارات الجيدة إلى 99.3 بالمئة. وبخصوص الانتقادات التي طالت هذه التقنية من ناحية التأثير على وتيرة المباريات بسبب التوقف لفترة طويلة، أوضح الاتحاد الدولي أن معدل وقت استخدام “في.أي.آر” كان 80 ثانية في الدور الأول. أخلاقيات اللعبة تأثير حكم الفيديو يطال تغيير خطط اللعبتأثير حكم الفيديو يطال تغيير خطط اللعب يتساءل الكاتب جوناثان ليو عن أخلاقيات اللعبة بعد فرض هذه التقنية، إذ كان يعتقد في الأصل أن تقنية حكم الفيديو قد تساعد في القضاء على تظاهر اللاعبين بالسقوط أرضاً. لكن الأدلة حتى الآن تشير إلى عكس ذلك، الأمر الذي يجعل من فرضية أن هذه التقنية غير عادلة واردة جدا. ويبدو أن لفت انتباه الجماهير آخذ في الازدياد، حيث يحيط اللاعبون بالحكم بعد كل حادثة مثيرة للجدل محدثين بعض الإيماءات الصغيرة في الملعب، وسيستمر الأمر غير خاضع للمراقبة إلى أن يتم إدخال نظام الإحالة التحكيمية القائم بالفعل في لعبتي الكريكت وكرة القدم الأميركية. وبالطبع، لا شيء من هذا قد يتحقق. فالقضية هنا هي أن رياضة كرة القدم تتطور بحيث لا نعرف بعد الوجهة التي ستتخذها. وبالمثل في كرة السلة، انتهى تطبيق قانون دخول المنطقة المحرمة للمنافسين أكثر من ثلاث ثوانٍ والذي أُصدر في عام 2001 – 2002 إلى إحداث تأثير عميق على المركز. وفي الوقت الحالي، في سباق الفورمولا أو في اتحاد الرغبي، أصبحت التعديلات المتكررة في القواعد جزءًا متأصلًا من ثقافة الرياضة، وهي طقوس سنوية يتم إصدارها، مثل ممثل هوليوود الذي يفعل الكثير من عمليات التجميل في وجهه إلى درجة لا يستطيع أحد أن يتذكر كيف كان يبدو وجهه الأصلي. هل تقنية حكم الفيديو المساعد مفيدة أم غير مفيدة بالنسبة لكرة القدم؟ من نواح عديدة، تظل هذه نقطة خلاف. لكن الدرس المستفاد من جميع أنواع الرياضات حول العالم هو أن تدرج التقدم التكنولوجي لا يذهب إلا في اتجاه واحد. ويقول ليو “إذا كان كل ذلك يبدو مربكاً ومحيراً في بدايته، سينتهي الأمر بالتكيف معه. وسيصبح الغضب تجاهه وانتقاده اليوم، وضعاً طبيعياً سنقبل به في الغد. وقد ندرك في يوم من الأيام أن التكنولوجيا قد منحتنا أعظم الهدايا: وهي فرصة رؤية مباريات كرة القدم ليس بالطريقة التي فرضت علينا أن نشاهدها بها، ولكن بالطريقة التي تجري بها المباراة في الحقيقة”.
مشاركة :