إن الشيء الوحيد الأسوأ من الوجود على «فيسبوك» هو عدم المشاركة على «فيسبوك». وتلك هي النتيجة الوحيدة الواضحة التي يمكننا استخلاصها من الجدالات الأخيرة المتعلقة بالشبكة الاجتماعية الأشهر على مستوى العالم.وعلى الرغم من انتهاكات الخصوصية، وعلى الرغم من قذائف الأكاذيب والشتائم والسباب، وعلى الرغم من الانتقادات الحادة من الساسة والصحافة، لا يزال «فيسبوك» قادراً على امتصاص قدر هائل من وقت البشر واهتمامهم. وأظهر التقرير المالي الأخير للشركة، والصادر في أعقاب فضيحة «كامبريدج أناليتيكا»، وحملة (إلغاء «فيسبوك» - #DeleteFacebook)، أن «فيسبوك» قد اجتذب ملايين الأعضاء الجدد خلال الربع الأول من العام الحالي، مع ارتفاع مبيعات الإعلانات عبر الموقع. وأصبح «فيسبوك» أحد أفضل الأصدقاء والأعداء في الوقت ذاته.وفي كتابها المعنون «الإعلام المعادي للمجتمع» يقدم البروفسور سيفا فيدياناثان، من جامعة فيرجينيا، طرحاً كاملاً ودقيقاً عن خطايا «فيسبوك» وأخطائها. وأغلب هذه الانتقادات معروفة لأي شخص يتابع أخبار شركة «فيسبوك». لكن ما يميز كتاب البروفسور فيدياناثان هي مهارته الفذة في عرض ظاهرة الإعلام الاجتماعي عبر سياق قانوني، وتاريخي، وسياسي أوسع.ويوضح البروفسور فيدياناثان في كتابه، على سبيل المثال، لماذا كان طرحنا ونقاشنا بشأن خصوصية البيانات ضحلاً وضئيلاً للغاية، ذلك لأن الرؤية الأميركية للخصوصية تشكلت من واقع حظر التعديل الدستوري الرابع لما يعرف بـ«عمليات البحث والضبط غير المعقولة»؛ ولأننا نميل إلى التعامل مع الخصوصية من زاوية الاصطلاحات القانونية الضيقة: ما نفعله سراً محمي من أعين المتطفلين؛ وما نفعله جهراً متاح للفحص والمراقبة. والآن، المعلومات الشخصية التي كان الناس يحتفظون بها داخل أدراج مكاتبهم الشخصية صارت متاحة على المشاع عبر الخزانات السحابية للشركات العملاقة، وبالتالي تلاشى تماماً التمييز القانوني القديم بشأن الخصوصية الشخصية. وصار كل شيء متاحاً للرصد والفحص والمراقبة.ويُفتقد من البعد القانوني أي حس بالعواقب الأخلاقية من خلال متابعة الحياة الطبيعية ونحن تحت المراقبة المستمرة. ونحن لا نرى أن وضعنا تحت الرصد، والفحص، والتصنيف قد يعتبر مناقضاً للكرامة الإنسانية. وانصرافنا عن البعد الأخلاقي للخصوصية يناسب شركة «فيسبوك» وغيرها من الشبكات الاجتماعية؛ إذ يمكنهم التعاطي مع مخاوف الخصوصية من خلال اللغة التعاقدية الغامضة وخانات الاختيار التي لا نهاية لها؛ الأمر الذي يقلل من المسألة إلى مجرد مسألة اختيار للمستهلك. ونجد أنفسنا في مواجهة الخصوصية بصفتها سلعةً يمكن تداولها في مقابل التطبيقات والمواد الترفيهية.وتعد انتقادات البروفسور فيدياناثان حادة غير أنها متوازنة. فهو يكشف عن بعض المزاعم الأكثر تطرفاً حول تأثير وسائل الإعلام الاجتماعية على الرأي العام. ولقد خلص إلى القليل من الأدلة التي تؤيد الفكرة الشائعة القائلة إن خطط التلاعب بالناخبين عبر الإنترنت التي تديرها الأطراف الخارجية لها تأثير حاسم على نتائج تصويت الخروج البريطاني داخل بريطانيا أو في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016.غير أنه يقول إن «فيسبوك» وأمثالها من المنصات الاجتماعية تعمل على الحط من قدر السياسة على أي حال. والرسائل التي تنال أكبر قدر من الاهتمام على وسائل التواصل الاجتماعي مستهدفة وبشدة، وهي دعوات مشحونة بالعاطفة للغاية، وليست حججاً منطقية بحال. ولم يعد من الضروري أن يطرح المرشح السياسي «رؤية عامة للحكومة أو المجتمع». وفي عصر المراسلات الدقيقة للقوة الإلكترونية الغاشمة، فإن الحزبية تتفوق كثيراً على الحنكة السياسية؛ الأمر الذي يؤدي إلى تقويض مهارات صناعة السياسات. و«فيسبوك» هي «أسوأ المنتديات التي يمكن من خلالها إدارة الحوار السياسي»، كما يقول البروفسور فيدياناثان. لكنه، بكل أسف، هو المنتدى الذي توافد عليه العامة والخاصة من كل حدب وصوب.وتفاقمت المشكلة من خلال ممارسات «فيسبوك» لتخصيص الموظفين في شنّ الحملات السياسية بغية ضمان استخدام المرشحين لبياناتهم وإعلاناتهم بأكثر الطرق الفاعلة الممكنة. ويقول البروفسور فيدياناثان، إن المستشارين المدرجين لدى «فيسبوك» قد لعبوا دوراً مركزياً بشكل خاص في صياغة الإعلان الإلكتروني الخاص بالسيد دونالد ترمب خلال السباق لرئاسي لعام 2016. ولقد أداروا الحملة صوب نوع من الرسائل الملتهبة والمرهقة بصرياً والتي تثير المشاعر وتنتشر على نطاق واسع عبر مختلف أرجاء الشبكة. واستفادت شركة «فيسبوك» مادياً من أرباح مبيعات المزيد من الإعلانات، واستفاد السيد ترمب من جذب المزيد من أصوات الناخبين، والمزيد من المتطوعين والمساهمين. ومن خلال «التقاء المصالح»، كما أشار البروفسور فيدياناثان، حصل السيد ترمب على ميزة متقدمة للغاية.لا يعتبر كتاب «الإعلام المعادي للمجتمع» كتاباً مفعماً بالأمل. ولا يعتقد البروفسور فيدياناثان في إمكانية إصلاح «فيسبوك» من الداخل، إلا أن الرئيس التنفيذي مارك زوكربيرغ قد واصل الاعتذار والتعهد بتحسين الأداء. وكتب البروفسور فيدياناثان في كتابه يقول «إن المشكلة مع (فيسبوك) هي (فيسبوك) ذاته». ولا يقتصر الأمر على أن الشركة تحقق الأرباح من خلال بيع المستخدمين إلى الجهات المعلنة. بل تكمن المشكلة في أن الشركة قد صارت ضخمة للغاية لدرجة صار من المحال لديها التخلص من الأشخاص المتسلقين الذين يستمرون في شرورهم حتى بعد التسبب في الأضرار العميقة. ويخلص البروفسور فيدياناثان إلى أن «فيسبوك» قد أصبح أكبر من محاولات الترويض. ولسوف تستمر الشركة في جهود التنظيف، وتواصل توسل مغفرتنا عن تلك الخطايا والزلات.وإن كان كتاب «الإعلام المعادي للمجتمع» يحمل طابعاً أكاديمياً، فإن كتاب «عشرة أسباب لإلغاء حساباتك على مواقع التواصل الاجتماعي فوراً» من تأليف عالم الحواسيب جارون لانييه، الذي صار أحد أبرز المنشقين عن «سيليكون فالي»، يهدف إلى إقناع القراء بأن «فيسبوك»، و«تويتر»، وغيرهما من منصات التواصل الاجتماعي المختلفة هي بيئات فاسدة للغاية، وآثارها مدمرة جداً على المستويين الشخصي والاجتماعي، وأننا في حاجة ملحة إلى الابتعاد عنها تماماً، وبسرعة؛ إذ يقول البروفسور لانييه في كتابه إن «الانسحاب التام هو الخيار الوحيد للتغيير المنشود».ويعتبر جارون لانييه أن وسائل الإعلام الاجتماعي من أنظمة التلاعب التي تحط من قدر كل من يتردد عليها. وكلما زاد مقدار المعلومات التي نقدمها عن أنفسنا، تحسنت أساليب تلك المواقع في توجيه أفكارنا وآرائنا. والمهمة الجوهرية لشركة مثل «فيسبوك»، كما يقول، هي تعديل السلوك. فالشركة لا تجمع فقط البيانات التفصيلية للغاية عن عادات وتفضيلات المستخدمين، وإنما هي تدير أيضاً كمّاً هائلاً من التجارب التي تهدف إلى تحديد نوعية الرسائل وغيرها من المحفزات التي من الأرجح لها أن تجذب الانتباه، وتثير ردود الفعل القوية، وتحفز الاستهلاك القسري للمعلومات. وغني عن القول، أن هذه النوعية من أساليب الهندسة النفسية المعقدة والمتطورة هي ذات أهمية كبيرة للجهات الإعلانية التي تسعى لبيع المنتجات إلينا. كما أنها ذات قيمة كبيرة ومماثلة للناشطين السياسيين، سواء كانوا شرعيين أو غير شرعيين، والذين يهدفون إلى تشكيل آرائنا ووجهات نظرنا.ونظراً لأن هذه الأساليب غامضة علينا؛ إذ تتعامل شركات التواصل الاجتماعي مع تلك اللوغاريتمات على أنها من الأسرار التجارية الخاصة، فنادراً ما ندرك الطرق المستخدمة في التلاعب بنا. وبما أن البرمجيات تمارس المزيد من التأثير على ما نراه وعلى طرق التفكير، فإننا نبدأ في فقدان الإرادة الحرة وإحساسنا بالتفرد، ونعجز عن مجرد التفكير لأنفسنا، فإننا ننجرف في طريق القبلية العقيمة، ونسلم هويتنا الذاتية لإحدى القوى البدائية للطبيعة البشرية، ونعيد تأسيس الهويات من خلال المشاركة في التفكير الجمعي وإرغام وإجبار أولئك الذين يحملون أفكاراً تختلف عن أفكارنا.* خدمة «واشنطن بوست»
مشاركة :