لم تكن الانتخابات التركية، الرئاسية والبرلمانية، التي أُجريت أخيراً، سوى الخطوة الأولى في الطريق الذي يسعى إليه رجب طيب أردوغان وحزب «العدالة والتنمية» الحاكم، لتأسيس «شرعية جديدة» للنظام الرئاسي الذي يتم تحويل تركيا إليه. فالانتخابات الأخيرة، لم تكن هذه المرة مجرد استحقاق دستوري عادي؛ بل، كانت محطة مصيرية، ومفصلية، في ما يتعلق بمستقبل البلاد، وتركيبة الحكم، وتوزيع السلطات، وهوية الدولة... فضلًا عن علاقاتها الخارجية. فبعد أن تمكّن الحزب الحاكم، خلال السنوات العشر الأخيرة، من إحداث تغييرات جذرية في بني الحكم وملامح الهوية التركية، مستعجلاً طي صفحة «جمهورية أتاتورك»، وتتويج زعيمه رئيساً يكاد يختصر بيده السلطات كافة، استطاع انتزاع نصر انتخابي مُهم، بعد حصوله على 42.5 في المئة من أصوات المقترعين في الانتخابات، مُضافاً إليها نسبة 11 في المئة التي حصل عليها حليفه حزب «الحركة القومية»؛ ما يعني حصول الحزبين معاً على أكثر من نصف الأصوات. فإذا أضفنا إلى ذلك، حصول أردوغان على نسبة تقارب 53 في المئة من الأصوات في هذه الانتخابات، فإن هذا يعني أن كليهما، الرئيس والحزب الحاكم، سيقودان تركيا إلى المئوية الأولى لإعلان الجمهورية التركية الحديثة، عام 2023. وهكذا، حصل الرئيس التركي على سلطات تنفيذية واسعة، تفتح أمامه الطريق لإقرار النظام الرئاسي الجديد؛ حيث تؤذن نتيجة الانتخابات بتطبيق نظام جديد، أيدته غالبية بسيطة في استفتاء عام 2017. وبموجب هذا النظام، يتم إلغاء منصب رئيس الوزراء، ويُصبح بوسع الرئيس إصدار مراسيم لتشكيل وزارات وإقالة موظفين حكوميين، من دون الحاجة إلى موافقة البرلمان. لكن، هذه ليست المؤشرات الوحيدة إلى إمكانية تحقيق استقرار الدولة التركية، وتحولها إلى نظام جديد بيسر وسهولة؛ إذ إن هناك مؤشرات أخرى تدل على ضعف مثل هذا الاحتمال، بخاصة أن هذا البلد يشهد صراعاً داخلياً، أدى إلى انقسام عميق واستقطاب حاد، حيال مجموعة السياسات الداخلية والخارجية. وبالتالي، لن يكون سهلاً على الرئيس وحزبه التفرد في رسم صورة المستقبل، أو فرض رؤيته ومشروعه السياسي والعقائدي على الداخل التركي، ناهيك عما هو خاص بالخارج. من بين هذه المؤشرات، خسارة الرهان في حصول حزب العدالة والتنمية على غالبية مقاعد البرلمان (301 صوتاً من أصل 600)، لتشكيل الحكومة منفرداً. صحيح أن الحزب وحليفه حزب «الحركة القومية» قد حصلا معاً على نسبة 53.5 في المئة، إلا أن حزب «العدالة والتنمية» سيُصبح تحت رحمة شريكه الصغير في الائتلاف، على الأقل بخصوص السياسات والبرامج والحصص من المناصب الحكومية، أو مناصب الدرجة الأولى في البيروقراطية التركية. ومن ثم، لنا أن نتوقع أن يجد حزب «العدالة والتنمية» نفسه قريباً، أمام مشكلة التعامل مع حليفه وشريكه الانتخابي، الذي يتبنى مطالب وأفكاراً متعارضة- في حقيقتها- مع ما يطرحه الرئيس وحزبه. من بين هذه المؤشرات، أيضاً، تمكّن حزب الحركة القومية «اليميني»، بزعامة دولت بهتشلي، من الحصول على 11 في المئة من مجموع الأصوات في الانتخابات البرلمانية؛ هذا، فضلاً عن مجموعة ميرال أكشنار، التي انشقت عن الحزب وشكّلت حزباً جديداً، تمكّن من تجاوز نسبة 10 في المئة الانتخابية اللازمة لدخول البرلمان. وهو ما يعني أن اليمين القومي «المتشدد» في تركيا حصد، مجتمعاً، ما يزيد على «خُمس» الأصوات في الانتخابات، وهي نسبة كبيرة بكل المعايير. ومن ثم، لنا أن نتأمل الاحتمال الذي يبقى قائماً، بإمكانية حصول تلاقٍ بين الحزبين القوميين، اللذين يتشاركان أكثر الأفكار والمبادئ السياسية؛ بخاصة أن مثل هذا التلاقي يمكن أن يقلب المعادلات الحزبية داخل البرلمان رأساً على عقب، في حال أدى التلاقي إلى تشكيل كتلة نيابية واحدة. من بين هذه المؤشرات، كذلك، التغيير الحاصل في خريطة البرلمان التركي المُقبل؛ إذ، استطاع حزب الشعب الجمهوري، «العلماني»، الحصول على 23 في المئة من الأصوات، إضافة إلى حزب الشعوب الديموقراطي، المؤيد للأكراد، الذي حصل على 12 في المئة. ومن ثم، فإن البرلمان المقبل سيتكون من خمسة أحزاب بدلاً من أربعة حالياً، بما يؤشر إلى أن المعارضة ستكون أقوى بكثير مما هي عليه في برلمان ما قبل الانتخابات. فإذا أضفنا إلى ذلك، أن التحالفات التي شهدتها الانتخابات، بالنسبة إلى الحكم والمعارضة على السواء، هي تحالفات انتخابية موقتة أكثر من كونها توافقاً على برامج سياسية متقاربة، لنا أن نتصور كيف يمكن للمرحلة المقبلة أن تشهد تقلبات كثيرة. مثل هذه المؤشرات تؤكد أن ثمة تحديات تواجه الرئيس التركي وحزبه، «العدالة والتنمية»، وتعوق إمكانية القفز على حال التردي السياسي الذي تعيشه تركيا منذ فترة. فالنظام التركي، وإن كان اكتسب «شرعية» جديدة عبر صناديق الاقتراع، بعد أن تآكلت صلاحية الشرعية التي تم فرضها بعد المحاولة الانقلابية؛ فهو، في الوقت نفسه، ما زال يُعاني التغيرات المتلاحقة في نخب السلطة الحاكمة، فضلاً عن التحولات المتتابعة في الإطار المؤسسي للدولة، ناهيك عن المشكلات المتوقعة نتيجة الدفع في اتجاه تغيير هوية الدولة التركية. وهنا، يكفي أن نتذكر الأحداث التي أعقبت محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا في صيف 2016 ودلالاتها في هذا الإطار. أيضاً، هناك التباطؤ الاقتصادي، وهو تحد سيفرض نفسه على الساحة بعدما تم تصوير الانتخابات على أنها «طوق نجاة» لما يُعانيه الاقتصاد التركي من نزيف اقتصادي، وتراجع في سعر صرف الليرة التركية وهبوطها إلى أدنى مستوى لها في تاريخها أمام الدولار الأميركي. صحيح أن الليرة التركية ارتفعت قيمتها نسبياً - أمام الدولار الأميركي، خلال اليومين التاليين للانتخابات، لكن يبقى حال عدم اليقين مؤثراً لا يمكن التغاضي عنه، على الأقل في شأن السياسة الاقتصادية في ظل حكومة جديدة من المنتظر تشكيلها بعد فوز أردوغان في الانتخابات، في ظل ارتفاع أرصدة الديون التي وصلت، وفق ما أعلنته وزارة الخزانة التركية، إلى ما يقرب من 223.4 بليون دولار. وإضافة إلى هذا وذاك، التردي السياسي والتباطؤ الاقتصادي، هناك التحديات الإقليمية المعقّدة في دول الجوار السوري والعراقي والقبرصي، والجمود في مسار العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي، والتأزم المستمر في العلاقات مع واشنطن. أياً ما يكن الأمر، فإن تركيا تتوجه إلى منحى تاريخي، سيرسم مستقبل البلاد، ويؤسس لنظام سياسي جديد يتحلل من الإرث الأتاتوركي، ويصنع دولة ذات توجهات بديلة عنه. ولعل هذا تحديداً ما سيُلقي بظلاله على الدور الإقليمي لتركيا، خصوصاً في ما يتعلق بالملفات المتشابكة والمعقدة التي تتقاطع مع المنطقة العربية وجوارها الإقليمي الشرق أوسطي. *كاتب مصري
مشاركة :