لا شيء يمكن أن يضاهي رومانسية الأعمال التشكيلية حين تعانق الفضاء الحر وتوجد في سياقها الطبيعي، أي الزماني والمكاني... وأجدني هنا لا أجد خير مثال أسوق به هذا المعطى غير «شخوص» رواية «البحث عن الزمن المفقود» لصاحبها مارسيل بروست التي فضل فيها الراوي عدم التوجه إلى المتحف لرؤية «مجسمات» شخصية «إلتسير» المذهلة، وفضل التوجه للتمعن في جمال الدوقة دي جارمونت، تماماً كما ذهب إلى المدينة الخيالية «بالبيك» في «النورموندي» ومدينة «البندقية» للتمعن في هندستهما المعمارية الأنيقة. هذا المثال نفسه أسوقه في سياق مماثل للحديث عن أروقة الفنون، حيث تنتفض بأسلوبها على غبار بعض المتاحف الراكدة تحت الذاكرة التاريخية ووفق طابع لم تشأ أن تبدل أو تخرج عن نمطها المعهود.. فبإحدى الشوارع العتيقة بباريس، حيث يمتد شارع سانت جيرمان، وشارع بونابرت وشارع مازارين إلى أطراف ضفاف نهر السين، تفوح رائحة القرون الماضية بالمكان ويمتد عبق الترف الفني الباذخ ويرسم التاريخ الموشح برائحة الألوان الزيتية التي تبعث في فضائها نكهة روائع على شاكلة «الموناليزا « ولوحات زيتية لمورو فيرنون، أو ما تعلق بالحضارات السابقة كحضارة البابليين أو منحوتات لمشاهير أمثال ميشيلونجيلو بوناروتي كمنحوتة «العبد الثائر» وأخرى نادرة وعصرية لستيرلينغ وفرانسين كلارك ودنيال ليبيلي وكارين ديمبروسيز. إذ ينتشر بأزقة هذه الشوارع أكثر من عشرين رواقاً للفن بكل أشكاله، حيث لا يتردد عشاق الفنون التشكيلية بكل أنواعها في دفع أبوابها للتمتع بفضاءاتها على مدار الأسبوع. هذه الأروقة الفنية التي أصبحت «مزاراً» لعشاق الفنون التشكيلية والفن بشكل عام، تكاد تنسي زوارها رونق المتاحف الكبرى كمتحف اللوفر وجاذبيتها وفضائها الفني وذاكرتها التاريخية التي تغزوها. الأكيد أن الرواق الفني لا يحتفي بدور المتاحف ولا يحذو حذوه ولكن المؤكد أن هذه الأورقة تصنع جاذبية خاصة، ومتعة نادرة يرقص على حفيف دليلها صخب الرواق الفني وتغرد بأرجائها نسمات التاريخ المعبق في تحف نادرة وعصرية تصنع انفرادية المكان.- أروقة الفنون هذه تفرد زواياها في أوقات للوحات وتحف فنية ومنحوتات عصرية لفنانين يلتقون في المكان والزمان نفسيهما ويلتف حول أعمالهم مريدو الرواق دون موعد أو سابق، يستفسرون، يشرحون وينتقدون كل ما يعرض دون الوقوع في الشراهة المرضية من الفن والتقيؤ منه. فتمنح تلك الأروقة زائرها نظرة نقدية بعين «مجردة»... فولوج المكان «بشكل مجاني» لا يُخضِعُ زائره لارتباطات «وقتية» محددة من قبل «الدليل» أو الإدارة، مثلما هو الحال في المتاحف، التي يتحكم في رسم مسار زوارها قائد أو «دليل» يمنح التقليد السائد خلال الجولات بشروحات قد «يشمئز» الزائر لاقتضابها أو للإسهاب فيها.. فالأروقة تساير الفن بتلقائية العرض، فهي تمثل الوقت الحاضر الذي نسكن «هواجسه» ويلقننا بروح الحضور تعاليم الفن التشكيلي بكل تفاصيله بعيداً عن كتم الأنفاس و«مماطلات» التوجيه... زيارة بعض المتاحف الفنية أو ما يطلق عليها المهتمون بالفنون التشكيلية بفرنسا «معابد الفن» يعطي الانطباع والشعور لزائرها أنه يجول بين أروقة «مدافن» أو «مقابر» مكسوة بالورود... ويفضلون التوجه في حضور مثل هذا الشعور إلى شارع بار لاشاز أو مونبارناس، حيث الأعمال الفنية تتراءى في صورتها الأصلية وحيث تتنفس الهواء النقي، خلافاً لعديد من المتاحف. ولطالما تردد في أوساط المهتمين بالفنون التشكيلية في أوروبا بشكل عام وفرنسا بشكل خاص ضرورة إيجاد الإطار الأمثل للفنون التشكيلية ونقلها إلى الأماكن التي تليق بها وتمنحها رونقها الفني على نطاق أوسع، فتغمرها تلك الأمكنة بالحياة في سياقها المعهود بعيداً عن الركود والأجواء المملة والمميتة التي قد تصنعها بعض المتاحف. وبين المتاحف وأروقة الفنون جدلية قائمة حدها متعة وفاصلها انتماء للدور الذي يناط بكل منهما، فليس المقصود بالأروقة الفنية تخزين الأعمال الفنية التشكيلة ولكن المقصود هو الترويج لها ومنحها المكان المناسب. كما يمكن أن تكون الفنون التشيكيلة حقاً عاماً يتاح للجميع، لكن الاحتكار وارد في بعض الأحيان. فقد يحالف الحظ أحدهم وتقع عينه على لوحة جميلة أو قطعة رائعة لمنحوتة عند أحد الخواص الذين يهتمون «بالأنتيكيتي» أو التحف القديمة بعيداً عن المتاحف، فيصنع منها زاوية تستدعي العودة إليها وزيارتها والتمعن فيها... وعلى تعبير أحد التشكيليين... مهما كان جمال العمل الفني التشكيلي، فإنه يبقى المكان يصنع ألقاً وجمالية ذلك العمل....
مشاركة :