في القمة التاريخية مع الرئيس الكوري الشمالي كيم يونغ أون مطلع الشهر الماضي في سنغافورة، حصل ترامب من بيونغ يانغ على التزام غامض بهدف نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية من دون رسم أي جدول زمني يحدد متى سيحدث ذلك، وفي المقابل، تعهد ترامب بتعليق التدريبات العسكرية مع كوريا الجنوبية، وقدّم لكيم فرصة الظهور بمظهر العضو الشرعي في المجتمع الدولي. التقى ماكرون بوتين وكذلك ميركل، ولكن عندما صارت أخبار لقاء ترامب بوتين مؤكدة، كان من الطبيعي ألا يتعاطى الأوروبيون مع هذا الحدث كما لو أنه مجرد لقاء عابر. سيلتقي ترامب بوتين في مرحلةٍ ما زال يواجه فيها خلافات مع مجتمعه الاستخباراتي بسبب تدخل روسيا لصالحه في الانتخابات الأميركية. ولكن سبق أن التقى ترامب بوتين وتحادثا مطولاً خلال قمة مجموعة الدول العشرين في هامبورغ السنة الماضية. واجتمعا مجدداً على هامش القمة الاقتصادية لدول آسيا والمحيط الهادئ في فيتنام قبل أربعة أشهر، مع أن هذه ستشكّل أول قمة لهما. من المفترض أن يلتقي هذان الرئيسان في 16 يوليو في هلسنكي بغية مناقشة الحرب في سورية، والعلاقات الروسية-الأميركية، وغيرهما من مسائل الأمن القومي. وفي تلك المرحلة، سيكون ترامب قد أنهى لتوه قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل، فضلاً عن زيارة طال انتظارها إلى المملكة المتحدة. لا يخشى القادة الأوروبيون فكرة لقاء بوتين بحد ذاتها، بما أنهم هم أنفسهم يجتمعون به بانتظام. كذلك لا يخافون التوقيت، الذي كان متوقعاً نظراً إلى التزامات الرئيس الأميركي السابقة في القارة. تكمن المشكلة في أنهم يعجزون عن توقع إلامَ قد يفضي هذا اللقاء. لا ينفك ترامب يعرب عن عشقه لإبقاء الأوروبيين في حالة من انعدام التوازن. فقد فرض، مثلاً، رسوماً جمركية كبيرة على واردات الفولاذ والألمنيوم من الاتحاد الأوروبي وغيره من الحلفاء. كذلك هدد بالتعاطي بالمثل مع السيارات الأوروبية، مفاقماً بالتالي خطر إشعال حرب تجارية ضروس. بالإضافة إلى ذلك، غادر باكراً قمة مجموعة الدول السبع قبل أيام، بعدما حرص على المطالبة بإعادة ضم روسيا إلى المجموعة (علماً أن عضويتها عُلّقت بسبب غزوها وضمها شبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014)، وعمل ترامب في النهاية على سحب تصديقه لبيان المشاركين المشترك. وأعلن مازحاً أن على الولايات المتحدة تحويل تحالفها مع «الناتو» إلى تعاون يستند إلى كل حالة على حدة (يُقال إنه ذكر أيضاً أن هذا الائتلاف العسكري «سيئ كما نافتا»، أي اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية). يخشى الأوروبيون أن يحمل ترامب معه إلى هلسنكي هذا النوع من التقلب، ما ينعكس عليهم سلباً. أخبرني دانيال فريد، باحث بارز في المجلس الأطلسي وسفير الولايات المتحدة السابق إلى بولندا أن «الأوروبيين عموماً يعبرون عن قلقهم، لا لأنهم يخشون فكرة تعاطي الرئيس الأميركي مع روسيا بل لأنهم يخافون تعاطي هذا الرئيس الأميركي بالتحديد مع روسيا في حين أنهم يجلهون إطار عمله الاستراتيجي. من المقلق بالتأكيد أن ترى رئيساً يخوض خلافات مع إدارته لتقرّبه من بوتين ويبدو منجذباً حقاً إلى نظام الحكم الاستبدادي». لا شك في أن هذا القلق مبرر. في القمة التاريخية مع الرئيس الكوري الشمالي كيم يونغ أون في مطلع الشهر الماضي في سنغافورة، حصل ترامب من بيونغ يانغ على التزام غامض بهدف نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية من دون رسم أي جدول زمني يحدد متى سيحدث ذلك. في المقابل، تعهد ترامب بتعليق التدريبات العسكرية مع كوريا الجنوبية وقدّم لكيم ما اعتُبر عموماً انتصاراً دعائياً: فرصة الظهور بمظهر العضو الشرعي في المجتمع الدولي لا الحاكم المستبد في دولة معزولة. يتفاقم الخطر بالتأكيد عند التعاطي مع شخص مثل بوتين. بخلاف كيم، لا يعاني بوتين العزلة الدولية، ويألف جيداً التعاطي مع الرؤساء الأميركيين. وقد برهن هذا الرئيس الأميركي بالتحديد أنه سريع التأثر بالتملق والمديح. ومن المؤكد أن الرئيس الروسي لاحظ هذا الأمر وقد يحاول استغلاله. وأضاف فريد: «يبدو بوتين ساحراً. فهو ذكي ويعرف جيداً مع مَن يتعامل. لذلك يخشى الناس أن يقنع ترامب بسهولة بالإقرار بأمر أو بمنحه أمراً مقابل لا شيء. ولا شك في أن هذا لا ينم عن مهارة في عقد الصفقات بل عن غباء». وقف تدريبات «الناتو» على سبيل المثال، قد يقدّم ترامب في هلسنكي نسخة عما قام به في سنغافورة، فقد يتعهد بوقف تدريبات الناتو العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة في بولندا ودول البلطيق والتي تعارضها روسيا، كذلك قد يقرر التخفيف من العقوبات الأميركية على روسيا من دون التطرق إلى ضم هذه الأخيرة منطقة القرم الأوكرانيا، مع أن هذا كان السبب وراء فرض العقوبات في المقام الأول. ولكن لا يبدو الجميع متشائمين. على سبيل المثال، وصف الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ في خطابه في قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل هذا اللقاء المرتقب بـ»إشارة قوة»، وأكّد أن من مصلحة «الناتو» خوض حوار مفتوح مع روسيا. وأضاف: «لا نريد حرباً باردة جديدة». على نحو مماثل، أشار فريد إلى أن هذا اللقاء يخدم أيضاً مصالح الولايات المتحدة، وقد أخبرني أن «ترامب و(مستشار الأمن القومي) جون بولتون محقان بقولهما إن ثمة مجالات ينبغي التعاون فيها مع روسيا، ولكن لا يعني هذا أن علينا التخفيف من الضغط على روسيا رداً على تعدياتها ضد أوكرانيا، وضد أوروبا، وضد نشر المعلومات الخاطئة في تدخلها في الانتخابات، وضد الولايات المتحدة». قد يعتمد المنحى الذي ستتخذه القمة على أداء ترامب في اللقاءات التي تسبقها. يوضح فريد أن الأوروبيين يخشون أن يكرر ترامب في قمة الناتو في بروكسل أداءه في قمة مجموعة الدول السبع، صاباً جام غضبه على حلفاء الولايات المتحدة لاستغلالهم بلده. كذلك لا تبشّر زيارة ترامب إلى المملكة المتحدة بالخير مع تهديد التظاهرات الحاشدة بفرض قيود على لقاء من المفترض أن يعزز علاقة مميزة متعثرة. وأوضح فريد: «إذا التقى ترامب بوتين وهو يحظى بدعم ائتلاف موحد ومرتاح، فقد يحقق النجاح، ولكن إذا اجتمع به ووراءه يقف ائتلاف منقسم، فسيكون في موقع ضعف لأنه لن يرغب في الخروج من اللعبة مع ثلاثة لقاءات فاشلة. إذن، يبقى خطر أن يقدّم ترامب لبوتين الكثير على شكل تنازلات غير ضرورية كي يحظى بلقاء جيد ظاهرياً، ولا أرى ما المصلحة الأميركية التي يخدمها هذا؟». ● ياسمين سرحان
مشاركة :