تونس – تعبر خالتي جميلة (55 عاما) -العاجزة عن قراءة وصفة الدواء- عن غضبها وألمها قائلة “الله لا ترحم من كان سببا”، تضيف بعد أن أحست بأن كلامها جذب انتباه الجميع في صيدلية الحي “لقد درست حتى السنة الثالثة من التعليم الابتدائي ثم أجبرت على البقاء في المنزل.. كانت المدرسة بعيدة جدا.. يا حسرة كانت أياما (من الزمن الجميل)”. ثم تستطرد “لقد درّست جميع أبنائي وحرصت على أن يتخرجوا جميعا من الجامعة.. جميعهم يحملون شهادات جامعية”. قد يكون الأمر مفهوما لمن في عمرها حين كان التعليم يعتبر -بين فئات كثيرة- “ترفا”، لكن اليوم كيف يفسر الأمر؟ إن ظاهرة التسرب من المدارس موجودة في جميع البلدان، ولا يمكن أن يخلو مجتمع من هذه الظاهرة، إلا أنها تتفاوت في درجة حدتها وتفاقمها من مجتمع إلى آخر، ومن مرحلة دراسية إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى. ففي الدول المتقدمة تتراوح نسبة التسرب بين 0 و1 بالمئة وهي نسبة ضئيلة جدا مرتبطة أساسا بإشكاليات في الأسرة أو في الطالب نفسه، وهو عكس ما يجري في الكثير من دول العالم ومنها الدول العربية التي تتسامح مع ظاهرة التسرب المدرسي دون أن تعلم أنها تمارس نوعاً من الانتحار الاجتماعي والحضاري. لقد فهمت المجتمعات المتقدمة اللعبة منذ البداية ولا أدل على ذلك سوى الصور التي يتداولها مستخدمو الشبكات الاجتماعية مرة بعد أخرى وتعود إلى نهاية الحرب العالمية الثانية حين نصب معلمون ألمان وسط الدمار مقاعد دراسية للأطفال. ويخبر التاريخ بأنه بعد هزيمة فرنسا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، شعر الناس بخيبة أمل فادحة، وفي ظل هذا التشاؤم من الحرب الخاسرة طرح الرئيس الفرنسي شارل ديغول سؤالا يتضمن استفسارا عن أوضاع التعليم في فرنسا، فأُخبر بأن التعليم بخير، فأجاب قائلا “إذًا فرنسا بخير”. وهذا ليس بعيدا عن أمثلة أخرى، فبعد تسرب الإشعاعات النووية في اليابان عام 2014، تداول الإعلام العالمي صورا لمعلمين وتلاميذ بأقنعة في المدارس. وتشترك المناطق التي تكون فيها نسب التسرب مرتفعة تاريخيًا في أنها جيوب فقر. ويكمن خطر تسرب التلاميذ من التعليم الأساسي في هذه المناطق، في أن هؤلاء، كما يقول تقرير صادر عن مؤسسة المجتمع المفتوح (Open Society Foundation)، “عندما يفوّتون فرصة التعليم فإنهم في الحقيقة يفوّتون ما يكاد يكون فرصتهم الوحيدة للخروج من الفقر”. إنهم، بحسب التقرير، يصبحون “غير مرئيين للنظام”، ما يجعلهم في معظم الأحيان عرضة لـ”الاستغلال والانتهاك”. وقد استخدم حديثا مفهوم الطلبة المعرضين لخطر الفشل الدراسي بلفظ (At risk في خطر) عند الحديث عن هؤلاء الطلبة، وذلك لأن تركهم المدرسة والخروج منها دون امتلاكهم المهارات الكافية لمواجهة الحياة كفيل بتعريض حياتهم ومستقبلهم للخطر. وفي الأدبيات التربوية استخدمت تعابير عديدة لوصف الطلبة المعرضين للخطر، منها: “المحرومون ثقافيا أو اجتماعيا”، و”ذوو القدرات المتدنية”، و”المنبوذون” و”المعزولون” و”المحبطون” و”ذوو التحصيل المتدني”. وفي المجتمعات العربية ما فتئت ظاهرة الانقطاع عن الدراسة،تتفاقم. ففي تونس، تعاني المنظومة التربوية من الكثير من المشكلات لكن أكثرها خطورة على الأطفال اليوم وعلى المجتمع بأكمله صعوبة منع تسرّب التلاميذ. ويتم تسجيل أكثر من 100 ألف حالة انقطاع عن الدّراسة سنويا، ووفق إحصائيات فإن عدد التونسيين الذين غادروا المدرسة في مرحلة ما قبل التعليم الجامعي بلغ أربعة ملايين. وفي مصر بلغ متوسط نسبة التسرب الإجمالي 6.5 بالمئة في الوقت الذي وصلت فيه نسبة الأمية إلى 30 بالمئة. وتسجل الجزائر أكثر من 200 ألف حالة تسرُّب مدرسي سنوياً، علما أن الأطفال يمثلون ثلث المجتمع أي حوالي 9 ملايين و600 ألف طفل. كما تبدو هذه الظاهرة متفشية بشكل كبير في المغرب وسوريا ولبنان، نظرا إلى الوضع الاقتصادي والهشاشة الاجتماعية.
مشاركة :