أسدل القضاء المغربى، الستار على ما شهده شمال المملكة، من حراك اجتماعى، بإصدار محكمة مغربية يوم الثلاثاء الماضى ٢ يونيو، حكمًا بالسجن ٢٠ عامًا بحق ناصر الزفزافى، قائد ما يعرف بـ«الحراك الريفي» فى منطقة الريف ومدينة الحسيمة، وأصدرت أحكامًا تتراوح بين ٣ و١٥ عامًا على آخرين.يُذكر أن منطقة الريف، قد شهدت احتجاجات فى أكتوبر ٢٠١٦، بعد وفاة بائع السمك «محسن فكري» داخل سيارة قمامة التابعة للبلدية، وهو يحاول استعادة تجارته التى صادرتها شرطة المرافق، وبذلك تصدرت المطالب الاقتصادية واجهة الحراك، ويشهد الشارع المغربى الآن سخطًا كبيرًا خاصة بعد الحكم على «الزفزافى» ورفاقه من المشاركين فى الحراك.نحاول فيما يلى فهم ظاهرة الحراك الريفى فى المغرب، وموقف الأطراف السياسية من تطوراته، وأسباب تجدد مظلوميّات الريف الذى شهد حملة قمع شرسة فى عهد الملك «الحسن الثاني»، ومحاولة فهم أسباب فشل الدولة المغربية باختلاف حكوماتها من احتواء تلك الأزمة، أو حتى تحقيق تنمية حقيقية لأهله، وهل استفاد الريف من أعمال «هيئة الانصاف والمصالحة»؟بدأت شرارة الحراك بعد مقتل بائع السمك «محسن فكري» بمدينة الحسيمة، عبر طحنه فى شاحنة القمامة، أمام مرأى ومسمع من رجال الشرطة، وأثار الحدث بركان غضب لدى فئات الشعب المغربى، خاصة غير المؤدلجين، وانتقل الدعم من الجماهير العادية إلى تبنى قوى حزبية وسياسية ومنظمات مجتمع مدنى وحقوقى للحراك.وتم تنظيم الاحتجاجات التى لاقت انتشارًا ورواجًا كبيرًا لدى الناس، الذين رفعوا شعارات لرفض الفساد والاستبداد وعمليات التعذيب، فضلًا عن مطالب التنمية، ورغم تمكن الدولة باحتواء عائلة «محسن فكري» بترك الأمر للقضاء، استكمل «الريفيون» احتجاجاتهم بقيادة «الزفزافى» وأثارت أحكام القضاء فى اليومين الماضيين الأحداث خاصة بعد الأحكام القاسية التى حُكم بها.تقف وراء الحراك العديد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية والنفسية، فلم يكن مقتل «محسن فكري» إلا شرارة اللهب التى قادت الريفيين إلى الاحتجاج، ويمكن تأطير هذه العوامل وتصنيفها وفق أربعة أقسام رئيسة وهى الأسباب الاجتماعية، والسياسية، والتاريخية، والنفسية.من ناحية الأسباب التاريخية، اتسمت علاقة منطقة «الريف المغربي» مع السلطة المركزية فى «الرباط» بالارتباك على مدى سنوات، فقد سعى الريفيون عام ١٩٢١ إلى تأسيس جمهورية مستقلة فى الريف، ثم شهدت المنطقة انتفاضات عدة ضد الحكم المركزى المغربى، نهاية الخمسينيات من القرن الماضى، لكنها تعرضت للقمع الشديد من قبل الملك «الحسن الثاني»، ومنذ ذلك الوقت تعانى مناطق الريف من التهميش السياسى والاقتصادى. وبذلك تعد مسألة الحراك الريفى انعكاسًا لأزمة تاريخية اتصلت مباشرة بتفاوض «عبد الكريم الخطابي» مع السلطات فى الرباط لإعلان استقلال الدولة، وكنتيجة لهذا التاريخ النضالى الممتد، اكتسب الريفيون جينات المقاومة من مسار تاريخهم المشرف لمقاومة الاحتلال الفرنسى والإسبانى فى مراحل التحرر الوطنى، وهو ما مثل رصيدًا معنويًا لأبناء هذه المناطق.أما من ناحية الأسباب السياسية وتبعاتها، فيربط كثير من المحللين تطورات الأوضاع فى الريف، إلى الإحباط من تراجع الإصلاحات التى أقرَّها الدستور بعد حراك ٢٠١١، ويعزى تطور الأحداث إلى ضعف النخبة الريفية التى تقوم بدور الوساطة بين المحتجين والسلطات.من ناحية أخرى، أثرت الأحداث السياسية التى شهدتها منطقة الريف منذ الاستقلال كثيرًا على العلاقة بين الريف والسلطة؛ حيث وصف الملك الراحل «الحسن الثاني» أبناء المنطقة بـ«الأوباش» بعد أحداث انتفاضة الريف، وعليه فقد شعر الريفيون بالإقصاء والتهميش والعنف الرمزى ضدهم.وعلى جانب الأسباب الاقتصادية، تعيش مناطق شمال المغرب وضعًا اقتصاديًا صعبًا، خاصة فى ظل ارتفاع معدلات الفقر وارتفاع الأسعار، والبطالة التى يعانى منها الشباب، ويصطدم ذلك مع واقع الثروات التى تزخر بها المغرب؛ حيث تحتل المرتبة الأولى عربيًا والثامنة عشرة عالميًا من إنتاج الأسماك بفضل موقعها المتميز المطل على البحر المتوسط، والمحيط الأطلسى.بالإضافة إلى ذلك، تزخر «الرباط» باحتياطات عالمية من الذهب، والفضة، ومنذ اليوم الأول للاحتجاجات، أعلن المنظمون أن مطالب حركتهم تتعلق بقضايا التهميش الذى يعانى منه الريف منذ سنوات، وطالبت الاحتجاجات السلطات بالتخلى عن سياسة الحصار الاقتصادى التى تتعامل بها الدولة المغربية مع المنطقة.فضلًا عن المطالبة بالربط بشبكات الطرق العامة، وبناء الجامعات والمعاهد لأبناء المنطقة، ويعتبر «الريف» مناطق عسكرية بالأساس، وهو ما يسبب آثارًا اجتماعية ونفسية واقتصادية على سكان المنطقة وحرمان تلك المنطقة من الاستثمارات الداخلية والأجنبية نتيجة خوف المستثمرين، إضافة إلى ضعف البنية التحتية وافتقار المنطقة للمرافق العمومية مثل شبكات الطرق والمدارس والجامعات، وهذا التناقض الطبقى الذى تشهده مناطق المغرب، دائمًا ما يمكن أن ينذر بانفجار مفاجئ؛ حيث تتسع الفجوة بين الطبقات، وترتفع «مظلومية التهميش».على جانب آخر، عمد تنظيم «جماعة الإخوان» على إستغلال الحراك، بشكل أو بآخر، واستغلال الظرف السياسى، كما تفعل دائمًا فى تلك الظروف، وصرَّح «عبدالعزيز أفتاتي»، القيادى بحزب العدالة والتنمية بدعمه للحراك، واصفًا المطالب بالمشروعة، ودعا السلطات المغربية بتقديم الدعم للمنطقة.كما أدانت «الهيئة الحقوقية لجماعة العدل والإحسان» الأحكام الصادرة بحق قادة «الحراك الريفي»، ودعت السلطات إلى تحقيق مطالب الريف المشروعة، التى اقتصرت على مكافحة الفساد وتجاوز سياسات التهميش، وتقوية شبكات البنية التحتية من طرق ومدارس وجامعات.وأشار بيان «الهيئة» إلى رفض الأحكام استنادًا على اعتراف الحكومة والمخزن رسميًا بمشروعية الاحتجاجات، وبداية الشروع فى إنجاز بعض المشاريع، فيما رفض «حزب العدالة والتنمية» الأحكام الصادرة بحق النشطاء معتبرها قاسية وظالمة، ودعا الحزب فى بيانه إلى الإفراج عن كافة قادة الاحتجاج. ورغم انتقاد الإخوان للأداء الحكومى فى التعاطى مع أزمات «الحسينة» إلا أنهم ما زالوا متمسكين بالمشاركة فى الحكومة.واتسم تعامل السلطات المركزية مع الحراك بضبابية وتناقض، فعلى الرغم من اعتراف الحكومة بمشروعية الاحتجاج إلا أن المحتجين تلقوا اتهامات تتعلق بتلقى تمويلات خارجية، واتهمتهم وزارة الداخلية بالسعى للانفصال والإضرار بالوحدة الوطنية، وذلك لتسويغ تفعيل التعامل الأمنى. ونشطت الحكومة على المستويين السياسى والحقوقي؛ إذ قام المجلس الوطنى لحقوق الإنسان بدور التقصى فى اتهامات التعذيب، وتكفل القضاء بالبت فيها.وسياسيًا، أقرَّت الحكومة بمشروعية المطالب وضرورة تفعيل ملف التنمية فى المنطقة، وبدأت بتسريع مشروع «الحسيمة منارة المتوسط» الذى كانت قد أعلنته فى عام ٢٠١٥. وعلى الرغم من الاعتراف الحكومى بمشروعية المطالب، حكم القضاء مؤخرًا بأحكام قضائية قاسية على المشاركين فى الحراك، وعليه فقد أدانت «منظمة العفو الدولية» الأحكام الصادرة بحق قيادات حراك الريف.وعلى صعيدٍ آخر، أكدت الاحتجاجات تراجع الثقة فى دور المؤسسات الوسيطة، خاصة الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدنى. وينسب المغاربة تراجع دور المؤسسة الحزبية إلى السياسات التى يتبعها المخزن لتقزيم دور الأحزاب وتهميشها لصالح السلطات المركزية، ستؤثر الأحكام القضائية الأخيرة على سير عملية الحوار السياسى التى فتحتها الحكومة مع أهالى الريف، وحتمًا ستنعكس على درجة الثقة بين أهالى الريف والسلطات المركزية فى مراكش. تجدر الإشارة إلى أن قادة الحراك المؤثرين من ضمن من حُكم عليهم، ولم يتبقَ فى الخارج إلا القيادات الوسيطة، التى لا تستطيع تقديم مبادرات لاحتواء الأزمة.ختامًا؛ ما دام حراك الريف فى المغرب صداعًا يؤرق الحكومات والملوك، وذلك منذ الاستقلال، وجاءت احتجاجات ٢٠١٦ لتكشف عن حالة الغضب المدفونة لمطالب الريف المتأخرة، التى عبرت عن واقع مأزوم مفرخ للطاقات السلبية للشباب الذى يعانى الفقر والبطالة، وما زاد الأمر صعوبة التعامل الامنى مع المشاركين فى الاحتجاج؛ حيث لم يطالبوا إلا بالحد الأدنى للحياة الكريمة، وهى إنشاء مدارس وجامعات ومشاريع للتوظيف والعمل، وهو ما قوبل بحالة من القمع والتخوين.
مشاركة :