بتمرير المرسوم 477 الأسبوع الماضي، نُقلت جميع السلطات الحاكمة في تركيا إلى الرئيس رجب طيب أردوغان، ليصبح المرسوم شاهداً على التحول إلى نظام الرجل الواحد ذي السلطة المطلقة. ومع عدم محدودية المراسيم، وفي ظل وجود برلمان يكاد يكون لا حول له ولا قوة تماما، بات جلياً أن هذا النظام يستحق وصفه بكلمة تتجاوز بكثير حدود ما توحي به أوصاف الديمقراطية غير الليبرالية، أو الاستبدادية المنتخبة، أو الحكم المطلق. وطبعا لكم أنتم القراء القول الفصل في هذا، لكن يبدو أن النشطاء الأكراد محقون في وصفه بأنه “فاشي”. فهذه هي الرسالة التي بعثت بها لغة المرسوم 477، والذي يعطي الانطباع بأنه كان معدا سلفا قبل انتخابات 24 يونيو البرلمانية والرئاسية التي فاز فيها أردوغان وحزبه، حزب العدالة والتنمية. وهناك حديث عن رفع حالة الطوارئ. وهذه ليست مفاجأة، لأن قانون الطوارئ لم يعد يخدم أي غرض. ففي أعقاب محاولة الانقلاب التي وقعت في يوليو 2016، استُخدمت حالة الطوارئ كأداة لتشكيل النظام الجديد. وقد أرست المراسيم المتعاقبة أسس النظام الجديد، بينما جرى دمج الاشتراطات التي تفرضها حالة الطوارئ في الهيكل الجديد الذي أسسه حزب العدالة والتنمية باستخدام بقايا الدولة القديمة. وحتى إذا رُفعت حالة الطوارئ، فإن ذلك لن يُحدث فارقاً في النظام الجديد؛ فقد أوضح دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية الشريك الأصغر في تحالف حزب العدالة والتنمية، أنه ما من سبيل آخر. فبجانب أردوغان يبدو الرجل عازماً على أن يهوي بتركيا إلى مسار اللاعودة. وهناك مهمة تاريخية اضطلع بها تحالف الشعب، الذي ضم حزب العدالة والتنمية والحركة القومية في الانتخابات، والذي يصر أردوغان على أن يظل متحدا بعد الانتخابات. تجسد هذه المهمة التوليفة الإسلامية التي روج لها حكام البلاد العسكريون في أعقاب انقلاب عام 1980 بهدف تقويض اليسار. ويهيمن تحالف الشعب الآن على البرلمان، لكن لا بأس من افتراض أن تركيا ستحكمها مراسيمٌ تصدر من قصر أردوغان. وسيكون هذا هو الوضع الطبيعي الجديد لهذه الحقبة. ووفقا لخارطة الطريق التي اتفق عليها أردوغان وبهجلي، سيصدر مرسوم آخر تزامناً مع حفل أداء الرئيس اليمين. يحدد الأمر التنفيذي الجديد الملامح الإدارية لفترة غير محددة، ويدمج الاشتراطات التي تفرضها حالة الطوارئ في النظام القانوني الاعتيادي. وسواء كنت تريد أن تصف هذه الدولة بأنها دولة أمنية أو دولة بوليسية، فإن هذا النظام الإداري سيظل على الأرجح قائما في تركيا ربما حتى عام 2023. ولن تتّبع الأوامر الإدارية التالية أعراف المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. ومع هدم الجسور التي تربط تركيا بالاتحاد الأوروبي، ستدخل أنقرة في حرب باردة مع مجلس أوروبا. ويمكن القول إن التحالف الحاكم يحفر مكانا جديدا لتركيا. في هذه البيئة يصبح لا معنى لافتراض أن يكون للتشريع وظيفة في تركيا، أو أن يكون استمرار وجود البرلمان مدعاة للأمل، إذ سيظل المرسوم 477 يلقي بظلاله لفترة طويلة. إذا ما هو قانون تمكين الذي أشرت إليه في العنوان؟ قانون تمكين هو الذي مكن النظام النازي الذي تزعمه أدولف هتلر من الحصول على الشرعية على الورق، ومثّل بداية حقيقية لكابوس ذلك النظام النازي. صدر ذلك القانون بتاريخ 23 مارس 1933. في أعقاب حريق الرايخشتاغ جرى تمرير قانون أطاح بالحقوق الأساسية ومنح سلطات كبيرة للنازيين. وخلال شهر واحد، كان النازيون قد مرروا قانون تمكين وجرى توقيعه في اليوم ذاته ليصبح قانونا ساريا لمدة أربع سنوات. منح القانون جميع السلطات التي تتمتع بها الحكومة لهتلر خلال فترة الأربع سنوات، وأعطى مجلس وزرائه الحق في تمرير مراسيم وأخرج البرلمان من المعادلة، وحوّله إلى منصة يلقي هتلر خطبه عليها. كان قانون تمكين بداية الديكتاتورية النازية. والجميع في ألمانيا يعرفون كلمة تمكين، فهي محفورة في الأذهان كرمز لحقبة سوداء في تاريخ البلاد. والآن، وبعد أن انتهت الانتخابات، أرى أن الكثير من التحليلات التي تكتب، وخاصة تلك التي يكتبها اليسار، هي تحليلات مضللة وهزيلة. فالحقائق التالية يجري تجاهلها: اليسار التركي لم يحسم أمره بشأن ما إذا كان عليه أن يعطي أولوية للمحاربة من أجل الديمقراطية، أم لمحاربة الحكومة. وبشكل عام فإنه يميل إلى محاربة الحكومة ولا يعطي لأهمية المحاربة من أجل الديمقراطية حق قدرها كخطوة أولى ضرورية. يُنكر الناس حقيقة أنه طالما أن اليسار مستمر في التفكير في حدود معايير مبتذلة عمرها مئتي عام في مجتمع يهيمن عليه المحافظون والمتدينون والفكر القومي المتعصب بأغلبية كاسحة، فإنه سيظل دائما أقلية مطحونة لكنها متعجرفة. إلى الآن لم تتضمن أي خطة تحرك مشترك شراكة استراتيجية مع الأكراد الذين يملكون العقلية التحليلية والذاكرة السياسية الأكثر ديمومة. بعد الانتخابات التي أجريت في الآونة الأخيرة، يبدو أن الناس لم يدركوا بعد أن العودة إلى الديمقراطية ليست ممكنة من دون كسر الهيمنة التي تتمتع بها المؤسسة السياسية التي تسيطر على حزب الشعب الجمهوري. سياسات الهوية والقبلية السياسية يُنظر إليها على أنها سمات إيجابية وليست معوقات. هناك رأي حالم يقول إن المعارضة الممزقة مازالت تملك أدوات مهمة بعد انتخابات يونيو. ويبدو هذا الزيف في اليسار في صورة أحلام يقظة عن الانتخابات المحلية التي ستُجرى العام المقبل. النقطة الأخيرة هي أن وسائل الإعلام، التي تعد جزءا من النقاش العام شبه غائبة تماماً عن الساحة. ومن المستحيل أن تضرب الحركات الديمقراطية بجذور لها وتنمو في كنف نظام يُنكر على وسائل الإعلام مساحة الحرية والاستقلال التي ينبغي أن تتمتع بها. وبالنسبة لمن يخالفني الرأي في هذه الحقائق، أنصحه بأن يبحث في تاريخ ألمانيا خلال ثلاثينات القرن الماضي. فمن المهم دراسة المعارضة المشتتة والهزيلة وانهيار اليسار في أعقاب حريق الرايخشتاغ. الأكراد يسمونها فاشية، ولديهم أسباب جيدة لهذا لأن التاريخ يعيد نفسه.
مشاركة :