أحدثت بيانات التضخم للشهر الماضي الذي قفز إلى 15.4 بالمئة، صدمة كاملة للمستثمرين وخبراء الاقتصاد، بعد أن أكدت أن الأسعار تخرج عن نطاق السيطرة يوما بعد يوم وأن التضخم قد يصل إلى 20 بالمئة في ذروة الصيف. الآن تتجه جميع الأنظار إلى الرئيس رجب طيب أردوغان بعد أن أحكم قبضته المطلقة على مؤسسات الدولة. السؤال المحوري هو؛ هل يفطن أردوغان إلى تغير البيئة في الأسواق العالمية، التي تشهد نزوح الأموال من الأسواق الناشئة، ويعود إلى السياسات الاقتصادية التقليدية التي أثبتت نجاحا في أيام حكمه الأولى أم سيصر على مواصلة نهج النمو الاقتصادي الذي سينقلب إلى لعبة خاسرة؟ إذا اختار أردوغان صوت العقل، قد تنجح تركيا في التغلب على كساد اقتصادي يلوح في الأفق حين ينتهي المجلس الاحتياطي الاتحادي الأميركي من برنامج زيادة أسعار الفائدة وتبدأ الأموال في التدفق من جديد على الأسواق الناشئة حول العالم. قراءة تضخم يونيو الكابوس الأكثر إزعاجا لتركيا بعد أن قفز إلى أعلى مستوياته منذ عام 2003 في وقت سجل فيه مؤشر أسعار المنتجين زيادة هائلة ليصل إلى 23.7 بالمئة. ومن المنتظر أن تتسارع وتيرة زيادة أسعار المستهلكين بسبب الفجوة بينها وبين مؤشر أسعار المنتجين، فضلا عن فقدان قيمة الليرة 20 بالمئة هذا العام، والعودة إلى رفع أسعار خدمات القطاع العام بعد تأجيله بسبب انتخابات 24 يونيو الرئاسية والبرلمانية، واستمرار ارتفاع تكلفة الطاقة في الأسواق العالمية. ويمثل هذا السيناريو خطرا بالغا على تركيا وشركاتها ومستهلكيها الذين يعانون بالفعل. وهذا مشهد جديد كليا على الاقتصاد التركي. لكن تدهور محركات التضخم لم يكن مفاجئا، فالمشكلة تفاقمت تدريجيا؛ فقد تراوح متوسط تضخم أسعار المستهلكين بين 8 و9 بالمئة بين 2010 و2013، وكان ذلك في ذروة تدفق الأموال السهلة إلى الأسواق الناشئة. وتزامن ذلك أيضا مع تحول البنك المركزي من نظام يستهدف كبح التضخم إلى سياسة تستند إلى أسعار فائدة متعددة في مسعى على ما يبدو لإرضاء أردوغان وتهدئة نفوره من رفع أسعار الفائدة. بعد ذلك ارتفع التضخم إلى ما بين 10 و11 بالمئة بين عامي 2013 و2016، حين قاد صعود الدولار والتقلب في الأسواق العالمية عملات الأسواق الناشئة إلى الهبوط. وبعد انحدار قيمة الليرة بنحو 20 بالمئة مقابل الدولار في الأشهر الثلاثة الماضية، دخلنا صدمة عملة كاملة ستعصف بمستويات التضخم، وهو ما يعني أن مستوى 15.4 بالمئة الحالي هو بالتأكيد ليس مستوى الذروة. البنك المركزي التركي كان شديد البطء في رفع أسعار الفائدة هذا العام من أجل كبح جماح التضخم وتراجع قيمة العملة المحلية. وكان تحركه في اللحظة الأخيرة برفع أسعار الفائدة بإجمالي 5 بالمئة مصدرا لصدمة أخرى في أسعار الفائدة أيضا. كل ذلك يرجح اتجاه مؤشر أسعار المستهلكين صوب مستوى يتراوح بين 18 و20 بالمئة بحلول أغسطس. ونحن هنا أمام خطر الركود التضخمي، الذي ينقلب فيه النمو خلال الربع الثالث من العام إلى الانكماش وسيتبع ذلك نصف عام تهيمن عليه بيئة الركود. جميع المؤشرات تؤكد المصير القاتم الذي تنتظره تركيا في ظل حكم أردوغان صاحب السلطات الأوسع الحقيقة المثيرة للقلق هي أن التضخم في تركيا ظل في مستويات مرتفعة طوال السنوات الثماني الماضية. لكنه هذه المرة سيبقى في مستويات خطيرة فوق 15 بالمئة حتى عام 2020. السؤال الآن هو كيف ستكون الحياة الاقتصادية في تركيا عند تلك المستويات من التضخم؟ وسوف تعتمد الإجابة على أمور أخرى أهمها طبيعة نهج أردوغان في إدارة الاقتصاد في ظل النظام الرئاسي الجديد، الذي يطبق لأول مرة في البلاد، وهو فريد من نوعه حتى بين الأنظمة الرئاسية في العالم. ليس سرا أن إدارة حزب العدالة والتنمية ركزت كثيرا على إعادة هيكلة الاقتصاد التركي من خلال برنامج لصندوق النقد الدولي خلال الفترة من عام 2002 إلى 2008، لكنها بعد ذلك أعطت أولوية قصوى للنمو الاقتصادي. وفتحت تكاليف الاقتراض المنخفضة ووفرة السيولة النقدية في الأسواق المالية العالمية الباب أمام مثل تلك السياسات دون إضافة الكثير من الأعباء على الاقتصاد ودون ظهور واضح لأعراض الاختلالات في الاقتصاد الكلي، لكن ذلك الزمن ولى والأمور تبدلت. أصبح المستثمرون في الأسواق المالية العالمية الآن يركزون على مرحلة جديدة طويلة من ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم لا مفر منها، وستشهد نزوح الأموال من الأسواق الناشئة التي ارتكبت حكوماتها أخطاء كبيرة في الاقتصاد الكلي خلال حقبة المال السهل. بمعنى آخر، سوف تتحول تلك الأموال الذكية إلى الدول التي لم تتكاسل حكوماتها عن ترتيب أوضاعها الداخلية خلال تلك السنوات المزهرة، بعد أن حل خريف تلك المرحلة. لقد أحدث أردوغان تغييرات كبيرة في الثقافة الحاكمة لتركيا، خاصة بعد استفتاء العام الماضي لتوسيع سلطاته الرئاسية. وهو بحاجة الآن في المقام الأول إلى ترتيب أوضاع إدارية جديدة بعد انتخابه في 24 يونيو الماضي، لكي يسير العمل بسلاسة في ظل السلطات الموسعة التي أصبح يتمتع بها الرئيس. لا يبدو أن التعيين المرتقب لفريق جديد من الوزراء سيعطينا أي دلائل حول الكيفية التي سيدار بها الاقتصاد التركي في الفترة المقبلة، حيث ستتقلص سلطات هؤلاء الوزراء كثيرا في ظل النظام الرئاسي الجديد. من المنتظر أن يسيطر أردوغان أكثر فأكثر على مجريات الاقتصاد اليومية، وسيتم إسناد المزيد من الأدوار الاقتصادية الرسمية إلى مستشاريه الكثيرين الذين اشتهروا بنهجهم التصادمي مع معايير اقتصاد السوق، التي تتبعها قوى السوق الغربية. لن تقتصر مشاكل تركيا الاقتصادية المتنامية على التضخم المرشح للارتفاع الكبير؛ لأن التضخم هو فقط إحدى نتائج الأخطاء في السياسات التي تم اعتمادها خلال السنوات العشر الأخيرة في حكم حزب العدالة والتنمية القابع في السلطة منذ 15 عاما. هناك قنبلة موقوتة في يد تركيا، حاليا، هي حجم الدين الخارجي الضخم على الشركات، والذي يعادل ما بين حوالي 25 و30 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في اقتصاد يكابد من أجل التركيز على القطاعات الإنتاجية في غياب قيادة مؤثرة. حين ساعد نائب رئيس الوزراء محمد شيمشك في تمهيد الطريق أمام زيادات أسعار الفائدة هذا العام، والتي تم تنفيذها رغم الموقف المعروف الذي يتبناه الرئيس التركي أردوغان المعارض لرفع أسعار الفائدة، وعد شيمشك المستثمرين ببرنامج يقترب من نهج صندوق النقد الدولي بعد انتخابات يونيو. لكن في الوقت الذي يقترب فيه موعد إجراء الانتخابات المحلية في مارس 2019، والتي يواجه حزب العدالة والتنمية فيها خطر خسارة مدينتي إسطنبول وأنقرة الكبيرتين، يبدو من المستبعد أن يتخلى أردوغان ومستشاروه المقربون عن خططهم الرامية إلى تحقيق معدل نمو أكبر وأن يتبعوا مسارا تقشفيا يلائم هدف خفض معدلات التضخم. وسيكون أردوغان مشغولا بتشكيل ملامح الدولة على نحو يتوافق مع النظام الرئاسي الجديد، وهو يؤكد أنه سيتحرك في “أي موضوع وكل موضوع”، وهو ما يفصح عن المصير القاتم الذي تنتظره تركيا في ظل حكم أردوغان صاحب السلطات الأوسع. في الوقت نفسه، سوف يتعين على الرئيس التعامل مع المشاكل الاقتصادية الملحة التي لم يعد بالإمكان إخفاؤها وراء ستار الأموال التي تدفقت على البلاد خلال أوقات الرخاء. ولذلك فإن كل شيء سيعتمد على خيارات أردوغان وقدرته على فهم الحقائق الاقتصادية.
مشاركة :