من السابق لأوانه الحديث عن قرب عودة الاستقرار والأمن في سوريا على الرغم من الانجازات العسكرية التي حققها الجيش السوري وتقليص مناطق تواجد الجماعات الإرهابية والفصائل السورية «المعارضة» والنجاح الملحوظ لجهود وقف الاقتتال في العديد من المناطق، وما تحقق في محافظة درعا السورية مؤخرا من اتفاق على وقف القتال في هذه المحافظة وموافقة الجماعات المسلحة «المعارضة» على تسليم أسلحتها الثقيلة، ودخول المؤسسات الحكومية السورية إلى مدن وقرى هذه المحافظة التي تعتبر شرارة اندلاع الأحداث في سوريا منذ شهر مارس من عام 2011.. ما تحقق في هذه المحافظة بالذات يثير أكثر من علامة استفهام حول مسار الأحداث في سوريا، بعد الأنباء التي تواردت عن عدول الولايات المتحدة الأمريكية وعدم استعدادها لتقديم أي دعم لقوى «المعارضة» في هذه المحافظة مما فتح الباب واسعا وسهلا أمام تقدم القوات السورية واستعادتها السيطرة على معبر نصيب الحدودي مع الأردن. هذه الانجازات العسكرية السورية الأخيرة ربما تعطي مؤشرا على أن العديد من الأطراف الإقليمية والدولية ذات التأثير الكبير في الشأن السوري بدأت تصل إلى قناعة بعدم جدوى إطالة أمد هذا الصراع الذي تسبب في تدمير الوطن السوري تدميرا شبه كامل، وتسبب في مقتل عشرات الآلاف وتشريد الملايين من المواطنين السوريين داخل وخارج وطنهم، وأضاف أعباء اقتصادية واجتماعية على دول الجوار، وخاصة تلك التي تعاني أصلا من مشاكل اقتصادية كالأردن ولبنان، وبدرجة أقل تركيا، فالحديث يكاد يكون قد توقف تقريبا عن مطالبة الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي، بل إن أطرافا كثيرة في «المعارضة» السورية قد نسيت هذا المطلب أصلا، ربما لتيقنها أن داعميها لم يعودوا متحمسين لهذا المطلب، بل وغير مستعدين للتمسك به في الظروف الحالية. الأزمة السورية بدون أدنى شك خلقت مشاكل كبيرة وكثيرة، وخطرة أيضا، ليس للدولة السورية التي تحملت الجزء الأكبر من هذا العبء وكانت تواجه خطر السقوط، لولا الدعم الروسي الكبير والقوي بالدرجة الأولى إلى جانب دعم حلفائها الآخرين.. هذه المشاكل وخطورتها تعدت بكثير الحدود الجغرافية للأرض السورية، بل تعدت أيضا دول الجوار وانتقلت إلى أكثر من جهة، وتحديدا الجهات الأوروبية التي استقبلت أعدادا كبيرة من اللاجئين السوريين، وتمكنت عناصر إرهابية من الاندساس في أوساطهم، ومن ثم تنفيذ جرائم إرهابية في أكثر من دولة أوروبية، هذه العناصر كلها تلقت تدريبا وحصلت على تمرس في الأعمال الإرهابية، داخل الأراضي السورية والعراقية. منذ بداية الأزمة السورية التي اندلعت في مناخ ما سمي موجات «الربيع العربي»، منذ بدايتها وانطلاقتها والأطراف التي احتضنتها ومولتها وساعدت على اتساعها تؤشر على أنها لم تنطلق على الإطلاق وما كانت لتحظى بهذا الدعم الكبير لو أنها تصب في مصلحة الشعب السوري، فالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية ووضع حد للنظام الشمولي الذي يحكم سوريا ليست سوى شعارات هدفها دغدغة مشاعر الشباب السوري التواق فعلا إلى الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، وقد أحسنت الأطراف الداعمة لاندلاع واستمرار الأحداث، أحسنت تطويع واستغلال هذه المشاعر الصادقة وتوجيهها في الاتجاه الذي يخدم الهدف الأكبر والأهم، وهو إسقاط الدولة السورية وإلحاقها بأشقائها الآخرين، كما هو حال العراق وليبيا وبدرجة أقل في كل من مصر وتونس. الآن وبعد مرور ما يربو على السبع سنوات على هذه الأحداث المأساوية والدموية التي ألحقت أضرارا جسيمة بمصالح جميع مكونات الشعب السوري من مختلف الطوائف والأعراق والأديان، بدأت الخيوط تتكشف أكثر وتبرز معالمها الحقيقية ومؤشرات الأهداف من ورائها، فالأطراف التي حرّضت وموّلت ودعمت واحتضنت الحراك السوري ووفرت كل أشكال الدعم المادي والسياسي لجميع قوى «المعارضة» تقريبا بما في ذلك تلك التي تنعت بأنها إرهابية، مثل «النصرة» و«داعش» وغيرهما من الأسماء، كل هذه الأطراف بدأت تلوذ بالصمت المطبق بعد أن حققت جزءا كبيرا من أهدافها، حيث أدخلت الدولة السورية في شبه عجز مرشح لأن يكون طويل الأمد جدا. فسوريا، إذا ما توقفت الأحداث فيها الآن، بحاجة بحسب تقدير الخبراء والمؤسسات الدولية المختلفة، بحاجة إلى ما يربو على المائتي مليار دولار لإعادة بناء المؤسسات التي دمّرتها الحرب الداخلية والتدخلات الخارجية وبث الروح في عجلة الاقتصاد السوري المتوقفة تماما عن الدوران. سوريا لا يمكن أن توفر مثل هذه الأموال وليس هناك مؤسسات دولية مستعدة للمساهمة في إعادة الإعمار وخاصة أن المؤسسات القادرة على القيام بذلك لا تملك استقلالية اتخاذ القرارات في مثل هذه الأمور، وإنما هي خاضعة للإرادة السياسية للدول المتحكمة في مفاتيح قراراتها، وهذه الدول ليست على استعداد للتوجه نحو هذا المنحى الآن ولا في المستقبل المنظور. نعيد ونؤكد ما بدأنا به، وهو أن سوريا أمامها مشوار طويل ليس للعودة إلى الحياة الطبيعية، وإنما لتلقي جرعات إنعاش لهذه الحياة، فالأحداث رغم كل الانتصارات العسكرية وانخفاض وتيرة المعارك بين القوى المتصارعة على الأرض السورية، لم تصل إلى نهايتها، فهناك قوى إقليمية يبدو أنها حتى الآن تعوّل على استمرار الأحداث رغبة منها في تكريس عجز الدولة السورية ومنعها من العودة إلى الوضع الطبيعي، رغم معرفة هذه القوى بأن هذه العودة بعيدة جدا في مثل هذه الظروف، المهمة شاقة وكبيرة، وهي على مسافة بعيدة جدا من الوصول إليها بمجرد وجود الأمنيات والنجاحات التي يبدو أنها -رغم أهميتها- صغيرة مقارنة بحجم الأزمة.
مشاركة :