محمد مصطفى حلمي وفلسفة التصوف الإسلامي 9

  • 7/14/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تباينت تعريفات المعنيين بالدراسات الروحية قدماء ومحدثين حول مصطلح (التصوف الإسلامي) فعرفه بعضهم بأنه: هو التخلق بالأخلاق الإلهية، وبالوقوف مع الآداب الشرعية، ظاهرًا: فيرى حكمها من الظاهر فى الباطن، وباطنًا: فيرى حكمها من الباطن فى الظاهر، فيحصل للتأدب بالحكمين كمال، ويعرفه المحدثون بأنه: هو العلم الذى يصور المثل الأعلى الإسلامى فى الأخلاق. بينما يعرفه خصومه بأنه علم الشطط والبدع وأن فى ممارسته مروق وتجديف. وينزع منكروه إلى أنه ضرب من ضروب الجهالة والخرافة، وأن أربابه من المشعوذين والمتواكلين وأراذل الناس. أما عندى هو الحكمة العملية للحب الجامع بين كمال العبودية وجمال وجلال الربوبية، وجوهره المجاهدة والاجتهاد والجهاد، فالمجاهدة لتلك النفس التى لم تعرف كيف تحب فأغرتها اللذائذ المادية وغوتها الشهوات الحسية وأماتتها الوسوسات الشيطانية. والاجتهاد فى فهم ما استطر ومعرفة ما خفى من الخبر، وتأويل ما بطن وما ظهر من كلام البارئ، وسنة خير من بعث وشكر. والجهاد فى نشر السماحة والسلام والعمل على إسعاد كل الأنام وغرس المحبة والرفق باللئام قبل الكرام، ومدح كل ملة تنزه وتعظم الرحمن وتدين بالإسلام. وقد استلهمنا هذا التعريف من فيض وروح تعاليم مفكرنا وكلماته. فقد عبر مفكرنا فى دراساته وتحقيقاته عن تلك المعانى، وذلك الجوهر وهاتيك المناهج والطرائق والسبل. هو الدكتور محمد مصطفى حلمى (١٩٠٤ – ١٩٦٩) رائد الدراسات الصوفية العربية فى العصر الحديث، والمفكر المصرى الذى أثرت مؤلفاته وتحقيقاته وترجماته المكتبة الفلسفية العربية، وهو المتفلسف الذى نظر إلى الفلسفة باعتبارها أفعال وأن التصوف منها سلوك وليس مظاهر وأقوال.ولد فى حى شبرا بالقاهرة، فى أسرة إسلامية الخصال والفعال، فجميع أعضائها يدين بالورع ويمقت الجشع والطمع، وعُرفوا بين الناس بأنهم عشاق المساجد وأهل المروءة والتسامح، فنشأ الصبى فى معيتهم على حب النبى وخصاله وسنته، وتلقى تعليمه الأولى فى مدارس شبرا حتى حصل على الثانوية القسم الأدبى عام ١٩٢٣، وفى هذه الآونة وهو فى ريعان الشباب ابتلاه الله بكف البصر، فلم يجزع بل حمد وشكر واتخذ من بلوته دافعًا لاجتياز كل العقبات، وراح يعبد الله بنفس راضية فى مقام الجهاد، وقد دون هذه المحنة فى مذكراته التى بدأ فى كتابتها قبل إصابته بكف البصر بشهور أى عام ١٩٢٢، وجاء فيها بصيغة الغائب (وقد تعرض- صاحبنا- لمحنة من أشد المحن على نفس شاب فى مستهل عهده بالشباب، فإذا هو يمسى ذات مساء يوم من أيام الشتاء، وقد اكفهر وجه السماء، وأرخى الليل سدول الظلماء، فأسدل معها على عينيه حجابًا لم يبق له إلا مساغًا لشعاع من ضياء، ولكنه قد كان إيمانه بالله ومشيئته إيمانًا قويًا، واطمئنانه إلى الله وقدرته اطمئنانًا نقيًا، لم يسعه إلا أن يقف من المحنة موقف الصابرين، ومن الله موقف الشاكرين، وكان فى ذلك، وفى كل ما عرض له بعد ذلك من المتفائلين الراضين؛ لأنه قد رسخ فى عقله وفى قلبه أن الله خير فلا يمكن أن يريد به إلا خيرًا). وفى عام ١٩٢٥، أصر على دخول الجامعة ليدرس الفلسفة اقتناعًا منه بأنها السبيل الأوحد الذى يمكنه من التعرف على العالم ببصيرته وأريحيته وذهنه إذا ما أحسن تعلمها، وذلك عوضًا عن بصره الذى فارق عيناه، وفى عام ١٩٢٩ حصل على ليسانس الآداب بقسم الفلسفة، ثم عين معيدًا عام ١٩٣٢، ثم حصل على الماجستير، وكان موضوعه (نظرية الجوهر عند ديكارت وسبينوزا) عام ١٩٣٧ تحت إشراف الفيلسوفين الفرنسيين أندريه لالاند وإميل برييه، ثم حصل على الدكتوراه عام ١٩٤٠ بعنوان (ابن الفارض والحب الإلهي)، تحت إشراف الشيخ مصطفى عبدالرازق بمرتبة الشرف الأولى. وعين مدرسًا عام ١٩٤١ فى نفس القسم، ثم أستاذ مساعد عام ١٩٤٨. وفى عام ١٩٥٤ تقدم لشغل وظيفة أستاذ كرسى الفلسفة بكلية الآداب مع زميله الدكتور عثمان أمين، وقد أقرت اللجنة المحكمة بأحقيتهما معًا بالدرجة، غير أن الفساد الإدارى حال بين مفكرنا وبلوغ ما استحق، ومنحت الدرجة لزميله الآخر دون تبرير، وقد قابل مفكرنا ذلك الظلم بصبر جميل وروح ضاحكة ومتهكمة على طمع الطامعين، فحمد الله وشكره على ما قدره وفعله ليختبر تلك النفس المحبة لوجهه دون سواه.وبعد بضع سنوات عاد مفكرنا للتقدم مرة ثانية للحصول على نفس الدرجة، ولم ينلها بحجة أنه لم يتقدم بأوراقه فى الموعد، ثم تقدم للمرة الثالثة عقب إعلان الجامعة عن حاجتها لمن يشغل هذه الدرجة، فتقدم إليها فاعتذرت إدارة الجامعة عن قبول طلبه بحجة اقترابه من سن المعاش عام ١٩٦٤. ويبدو أن ظلم ذوى الاحتياجات الخاصة له جذور مكينة ومتينة فى ثقافة المجتمعات والإدارات والهيئات المريضة والنفوس التى حاق بها العطب بعد أن شغل منها الحقد موضعًا لا شفاء منه، وأصابها العمى الذى حجب أعينها عن رؤية طريق الصلاح والفلاح. وخلال عمله بالجامعة كان مثالًا لكل- ما نفتقده الآن من خصال- الأب والمعلم والعالم الأريب المحنك الراغب فى تثقيف النشء وصنع عقول الرجال وتربية وتوعية طلابه وأصدقائه ومريديه، وأنموذجًا رائعًا للوفاء والإخلاص لأستاذته ورفاقه، وذلك لأن الحب والبر قد منحهما الله له عوضًا عن نور مقلتيه.وقد رشحه مقامه الرفيع فى ميدان البحث الفلسفى لشغل العديد من المواقع البحثية والعلمية، فقد انتدب لتدريس التصوف الإسلامى فى جامعة عين شمس، والإسكندرية، والخرطوم، وكلية أصول الدين بالأزهر، ومعهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة. وعمل خبيرًا للفلسفة بمجمع اللغة العربية، كما شارك فى كتابة الردود والتعليقات على أبحاث المستشرقين فى موسوعة (دائرة المعارف الإسلامية الفرنسية) النسخة المترجمة إلى العربية.ولم يقف دور مفكرنا عند عمله الأكاديمى فى الجامعة، بل كان كاتبًا تنويريًا من الطراز الأول؛ إذ أخذ على عاتقه رسالة تنبيه الأذهان بحقيقة الحياة الروحية الإسلامية، وتوضيح دور التصوف العملى فى إصلاح المجتمع ومؤسساته، وتقويم أخلاقيات الفرد وسلوك الأسرة، وتشهد بذلك مقالاته فى: مجلة الرسالة، تراث الإنسانية، الفكر المعاصر، الإسلام والتصوف، عالم الروح، الأزهر، منبر الإسلام، مجلة كلية الآداب. أما عن أسلوبه ومنهجه ودراساته الأكاديمية؛ فسوف نرجئ الحديث عنها إلى موضع آخر فى كتاباتنا. ويلخص مفكرنا مشوار حياته بقوله: (ما الحياة فى الدنيا إلا نفس يتردد فى الإنسان يوم قدومه إليها، وإلى نفس آخر يتصعد يوم رحيله منها، فيفنى المرء وتبقى ذكراه، وتبلى عظامه ولا تبلى آثاره، ورحم الله امرءًا قضى حياته فى علم يحصله، أو أدب يكتسبه، أو خير يؤتيه أو نفع لوطنه يؤديه، فإن هذا لهو الخالد أثره، الباقى ذكره، الجنة مأواه، ونعيم الخلد مثواه).ولسير الأعلام بقية

مشاركة :