الجمعية العلمية السورية في صميم حركة التنوير: لماذا لم يستفق العرب؟

  • 7/17/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

ثمة محطات في فكرنا العربي الحديث شكلت منطلقات تأسيسية للنهضة والتقدم والحداثة، من دون استعادتها وقراءة أثرها التنويري لا يمكن استيعاب الحراك الثقافي العربي ومراحل تطوره التاريخية. وإذا كان من هذه المحطات تشكّل الجمعيات التنويرية في الأعوام 1847 و1857 و1868، وصدور كتب ومجلات عبرت عن تحول ثقافي عربي نوعي، مثل «الساق على الساق» في 1855 لأحمد فارس الشدياق و «غابة الحق» في 1865 لفرنسيس المراش ومجلة «الجنان» في 1870 لبطرس البستاني و «طبائع الاستبداد» في 1902 لعبد الرحمن الكواكبي. إلا أن إعادة تشكيل «الجمعية العلمية السورية « في دورها الثاني في 1868 يبقى بعد مضي قرن ونصف قرن، من المحطات الأبرز والأكثر تميزاً، نظراً لدورها المركزي في النهضة العربية، وللخطب والمحاضرات والقصائد التنويرية التي ألقيت فيها، والأفكار والمبادىء الاجتماعية والوطنية التي طرحتها في حقبة تاريخية اتسمت بالتعصب الطائفي وساد فيها الجهل والتخلف الثقافي. الأمر الذي عبر عنه بطرس البستاني في محاضرة في «الجمعية العلمية السورية» في 1859 بقوله «لو أني ألقيت هذه المحاضرة قبل ثلاثين سنة لما وجدت في هذه المدينة، بل في البلاد كلها، شخصاً قادراً على قراءة وكتابة اسمه». أنشئت «الجمعية العلمية السورية» في دورها الأول في 1857 واشترك فيها، وفق جورج أنطونيوس، زعماء من مختلف العقائد، فكان من أعضاء مجلس إدارتها محمد أرسلان الدرزي وحسين بيهم السني وأحد أبناء البستاني المسيحي، وقد أعيد تأليفها في 1868 بدعم وحماية المتنورين الأتراك «العثمانيين الجدد» بل إن هؤلاء حضروا حفل افتتاحها وكانو أعضاء فخريين فيها. وهكذا استطاعت المثل العليا المشتركة أن تجمع بين العقائد المتناحرة وتوحدها في رابطة إيجابية فعالة، تعمل لتحقيق أهداف مشتركة. ما لم يحدث في بلاد الشام كلها، أو على الأقل ما لم يحدث خلال الحكم العثماني، على حد تعبير أنطونيوس. وقد مارست الجمعية تأثيراً مركزياً مباشراً على وعي المنورين العرب في ستينات القرن التاسع عشر أمثال بطرس البستاني وخير الدين التونسي وجبرائيل ونصرالله دلال وفرنسيس المراش، الذين عبروا جميعاً، في رأي جمال باروت، عن نزعة «عثمانية جديدة» بهذا القدر أو ذاك. وفي رأي أنطونيوس مثّل إنشاء الجمعية أول مظهر للوعي الوطني الجماعي، أما قيمتها الحقيقية فترجع إلى أنها كانت مهد نهضة حديثة وحركة سياسية جديدة. فأين نستطيع أن نتلمس معالم هذه النهضة الحديثة؟ في الإجابة عن هذا السؤال رأى يوسف قزما خوري أنه يتبين من قراءة الخطب والقصائد التي تليت في الجمعية أن أصحابها لم يقصدوا منها مجرد إلقاء تقارير علمية، بل إن غايتهم تعدت ذلك إلى وجوب الاعتراف بولوج عصر النهضة الحديث بكل وجوهه المتعددة، حيث نراهم يدعون إلى التقدم والاجتهاد بعد التأخر والانحطاط، وتعمير الأوطان، وإحياء اللغة العربية، واسترجاع التمدن، والاعتراف بفضل السلف الصالح، والدخول في عصر النور باقتباس ما استجد من العلوم والفنون، واكتساب جميع وسائط التمدن الحديث، مع الحرص على تجنب المس بالمشكلات السياسية أو بمسائل العقيدة. من أجل ذلك اعتبروا في رأي خوري من أوائل واضعي خميرة النهضة الحديثة. فمن هم أعضاء الجمعية العلمية السورية ومن كان خطباؤها وما الموضوعات التي تطرقوا إليها؟ بلغ عدد أعضاء الجمعية 116 عضواً من بيروت وطرابلس وجبل لبنان والشام ومصر والإسكندرية. بين هؤلاء راشد باشا والي سورية وفرنكو باشا متصرف جبل لبنان ويوسف كامل باشا رئيس المجلس العالي، ومن أبرزهم بطرس وسليم البستاني وأيوب تابت وعبد الرحمن الصلح وإبراهيم اليازجي ويوحنا ورتبات وميخائيل مشاقة ومحمد أمين أرسلان أول رئيس للجمعية. ألقيت في الجمعية العلمية السورية 19 خطبة و6 قصائد. فرأى محمد أمين أرسلان أن أهل هذه الديار من أفضل الأمم، وأنهم أهل التحضر القويم الذين سموا على جميع الأنام بمآثرهم الكريمة، ويجب أن يرجعوا مجدهم الطارف التليد بتشييد المدارس وإنشاء الجمعيات وعقد الاجتماعات العلمية. وفي الحث على التقدم أهاب إبراهيم اليازجي بالعرب ببذل الجهود للنهوض مجدداً بقوله في قصيدة تليت في الجمعية: سلام أيها العرب الكرام وجاد ربوع قطركم الغمام تناثر عقدنا قدماً ولكن سيرجع بالبها ذاك النظام ويذكر جورج أنطونيوس أن أول صوت لحركة العرب القومية كان في اجتماع سري عقده بعض أعضاء «الجمعية العلمية السورية» وكان أحدهم إبراهيم اليازجي الذي ألقى بصوت خافت قصيدته الشهيرة «هبوا واستفيقوا أيها العرب» التي ما لبثت أن انتشرت بالرواية الشفهية في كل أنحاء البلاد، فكانت «أول نشيد لحركة التحرر السياسي». وتلا موسى يوحنا فريج خطبة تحدث فيها عن ماهية التمدن ومنافعه وعن الوسائط الموصلة إليه التي تتمثل في انتشار العلم وإتقانه وفي الصنائع التي «هي أس الشرف والتمدن». وألقى المعلم بطرس البستاني خطاباً في «الهيئة الإجتماعية ومقابلة عادات العرب والإفرنج «فذهب إلى أن الأكثرين من أهالي بلادنا يكتفون بتقليد عادات الإفرنج وملابسهم مع أن هذه ليست بأكثر من قشور علقت على أذيال شجرة التمدن فيما الأجدر الأخذ بالأسباب الجوهرية التي دفعت بالإفرنج الى مقدمة الشعوب المتمدنة. وطرحت في الجمعية مسألة تعليم المرأة كي يتسنى لها أداء واجباتها وتربية أطفالها على نحو أفضل. كما ألقيت خطبة في الحث على إحياء اللغة العربية التي هي «أشرف اللغات وضعاً وأتقنها صنعاً». أليس في كل هذه الآراء والمبادىء التي طرحتها الجمعية العلمية السورية قبل قرن ونصف قرن ما لا يزال ضرورياً لنهضة العرب اليوم؟

مشاركة :