كان عيالي، بعكس أمهم، في منتهى السعادة بانتقالهم إلى لندن، فقد كان كل يوم يشكل لهم مفاجأة جديدة، وكانوا سعداء بوجودهم في مدارس ليس فيها شتائم أو ضرب، وكانوا يرغمونني في كل عطلة أسبوعية على اصطحابهم إلى مكان ما في لندن أو ضواحيها، وأعجبوا كثيرا بالديناصورات في متحف التاريخ الطبيعي، واستغربت ذلك، لأنه يفترض في كل من ينتمي إلى العالم العربي أن يكون قد «قرف» من رؤية الديناصورات التي قاومت الانقراض، ومازالت تبطش بالكثير من الشعوب العربية. واصطحبتهم ذات يوم إلى حديقة الحيوان في كامدن تاون، ورأى ولدي لؤي – وكان عمره وقتها فوق السنتين بقليل- الذئب، وسألني: بابا ده لحم الخنزير؟ تذكرت سؤالا وجهته لي ابنتي مروة عندما كانت في مثل عمره: بابا الفلافل نبات وللا حيوان؟ وكي لا تتهموها بالغباء، تذكروا أننا في السودان نقول «طعمية»، وليس فلافل، ولكن فلافل تسربت مؤخرا إلى القاموس السوداني، مثلما تسربت كلمات مثل «بنشر» التي سربها إلى البلاد المغتربون السودانيون في منطقة الخليج، وتعني المحل المخصص لمعالجة تسرب الهواء من الإطارات المطاطية للسيارات، ولم يكلف سوداني نفسه معالجة الخطأ الذي وقع فيه الخليجيون، والذي استدرجهم اليه الهنود الذين كانوا ولا يزالون يسيطرون على معظم محلات البنشر، وأصل الكلمة «بنكشر» puncture بلغة الإنجليز، وهي نفس الورطة التي أوقعنا فيها الهنود بكلمة ورنيش، الدهان المستخدم لتلميع الأحذية لأن بينهم وبين حرفي دبليو W وV الانجليزيين عداوة، فصارت «فارنيش»، ورنيش، كما صارت فيزا ويزا، أما الكلمة التي تسربت من بقية الدول العربية إلى السودان وتستفزني أكثر من صورة فاروق الفيشاوي، فهي «دوام» بمعنى ساعات العمل، فالكلمة عربية مائة في المائة، ولكن استخدامها بالمعنى السائد اليوم خاطئ تماما: أنت متأخر عن الدوام.. نلتقي بعد الدوام.. الدوام في رمضان خمس ساعات.. ويحاول بعض المتفلفسين (وهم المتفلسفين عن جهل مع سبق الإصرار) أن يبرر استخدامها بأن الإنسان يداوم على العمل، لو كان ذلك صحيحا لاسمينا الطعام «دوام» لأن الإنسان يداوم على الأكل.. وقس على ذلك. وفي أول عهدي بمنطقة الخليج كنت استهجن أن جمع سيارة عندهم سيايير، وعمارة عماير، وفي السعودية يجمعون عصير عصيرات، ولكنني تذكرت أننا في السودان نسمي الدجاج جداد والشمس شمش. وأهل جنوب شرق آسيا عندهم عداوة مع حرف «ف» وبالتالي فإن اسمي عند الفلبينيين «جابر»، والكوريون يقلبون الراء «لام» واللام راء، وبالتالي يصبح اسمي عندهم جابل (طبعا حرف العين يروح فيها في كل اللغات تقريبا ما عدا بعض لغات القرن الإفريقي)، وكوندوليسا رايس وزيرة خارجية الرئيس الأمريكي التعس جورج دبليو بوش كانت حزينة لأن الكوريين ينادونها «لايس» واللايس في الإنجليزية هو القمل. يعني مش قملة واحدة (لاوس louse) بل كتيبة من تلك الحشرات مصاصة الدماء. يفترض أنني في هذه السلسلة أتكلم عن تجربتي كعربيقي خاض صدام الحضارات في لندن، ولكن الحديث ذو شجون، والكلام جاب الكلام، ودخلت في فذلكة لغوية، وتذكرت الآن ان اسمي في بريطانيا هو «جافا» لأن الراء R التي تأتي في آخر معظم الكلمات الإنجليزية تروح فيها ولا تُنطق، وحكى لي صديق خليجي كيف أنه في أول زيارة له لأمريكا كان في مطار نيويورك، في انتظار طائرة تنقله إلى مدينة سياتل في وقت معلوم، وبعد ان فات ذلك الوقت المعلوم توجه إلى موظف الاستعلامات، وعلم ان الطائرة أقلعت في مواعيدها بعد الإعلان عن قيامها عدة مرات عبر مكبرات الصوت، ولكن الأمريكان يقلبون «ت» إلى «د»، وبالتالي فهم يقولون إن عاصمتهم «واشندن»، لأن الطاء تاء «مفخمة»، وعندما سمع صاحبي ان هناك رحلة إلى سيادل، لم يخطر بباله أنها سياتل التي ينشدها.
مشاركة :