تعددية الأديان وحداثة الدولة تتحديان الإسلامويّة المعاصرة

  • 7/17/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

الأرجح أن الإسلامويّة العربيّة المعاصرة بعد هزائمها المتنوعة العميقة، صارت أمام تحدي ضرورة تجديد فقهها السياسي، حيال منحيين متداخلين. يتمثّل المنحى الأولى في الجدار الصلب للتساوي بين الأديان في المجتمعات العربية وشعوبها، وهو أمر أشد أهمية من موقف مؤسسة الدولة العربية من تلك الأديان. ويتمثّل الثاني في معاودة الحوار مع الفكر السياسي الذي انتجته عقول البشر في حضاراتهم كلها. وباختصار، هناك تناقض أصيل يحاول خطاب الإسلامويّة المعاصرة التحايل عليه وإخفاءه، في شأن مؤسسة الدولة الحديثة التي يستند مفهومها وتركيبتها إلى الفكر البشري ومعطيات الحضارة الإنسانية كالفصل بين السلطات، الشرعية التمثيلية المستندة إلى الشعب، المواطن الفرد بوصفه كائناً حقوقياً وغيرها. وتعتني الدولة بمواطنين متساوين من حيث الأساس، ما يتناقض مع التغوّل الواضح (على رغم الالتفاف والتحايل) في خطاب الإسلامويّة المعاصر على الأديان الأخرى. ربما بدت الكلمات مؤلمة، لكن لا مفر من الصراحة في ذلك الشأن. يظهر ذلك التغوّل على الأديان في نصوص لمرجعيات خطاب الإسلاموية المعاصرة، كسيد قطب الذي يورد في «معالِم على الطريق» أنّ الإسلام «ينتزع الحريّة الشاملة لكل شخص ومجتمع من عبوديّة الأفراد الآخرين والمجتمعات الأخرى، وينهي عجرفة الإنسان وأنانيّته، ويقيم حكم الله وألوهيّته في العالم وحكم الشريعة الإلهيّة في شؤون الإنسان... عندما يدعو الإسلام إلى السلام، لا يكون هدفه مجرد سلام سطحي ينشد ضمان الأمن في رقعة الأرض التي يقطنها أتباع الإسلام. يعني السلام في الإسلام أن يكون الدين (بمعنى نظام المجتمع) كلّه صافيّاً لله، وأنّ يطيع الناس الله وحده، وإزالة كل نظام يسمح لبعض الناس أن يحكموا على الآخرين». هل من مجال للمداراة في شأن الاستعلاء والتغوّل على الأديان، في ذلك النص الذي كتبه من تعتبره الإسلاموية المعاصرة أحد أبرز مفكريها، بل مرجعية ومدرسة في تياراتها؟ يصنع البشر الدولة بأيديهم... في المنحى الأول (= تعددية أديان الشعوب العربيّة)، يبرز تجاهل الإسلاموية المعاصرة ، لتاريخيّة ذلك التنوّع الديني للشعوب العربيّة وهو منتشر في دولها كلها. ربما يلقي ذلك ضوءاً صغيراً على واقع أن صعود تلك الإسلاموية في سياق «الربيع العربي» ترافق مع ضرب النسيج الوطني وتحطيم علاقات الدين الإسلامي مع الهويّات الدينيّة العربية الأخرى. وفي المنحى الثاني (= الحوار مع الفكر الحضاري)، يسود الإسلامويّة المعاصرة فكر متطرّف وضع نفسه على عداء حتى مع خطوط في الفقه الإسلامي نادت بالتفاعل مع العقل الإنساني، كفقه المقاصد (الإمام الشاطبي مثلاً) والفصل بين الإيمان وعباداته وبين المعاملات بمعنى الدولة وقوانينها (الإمام محمد عبده ومجمل فقهاء النهضة العربية الحديثة). ويقول آخر، استند الفقه السياسي للإسلامويّة على مصادرة كل ما يتصل بالسياسة والدولة لمصلحة تفسيرها الخاص. وكذلك تمـــسك بالفقه المرتبط بسلفيات متطرفة ومتقاطعة مع أفكار سيد قطب، الذي يرفض ما ينتجه العقل البشري الحضاري بأشكاله كلّها. يقصد بالأخير كل ما انتجته البشرية فكرياً من القطيعة الأولى للفلـــسفة اليونانية مع التفكير الغيبي للميثولوجيا الإغريقيّة، وصولاً إلى التنوير والحداثة وما بعدها. واختصاراً، أعطى رفع مطلب الإسلامويّيين بتطبيق الشريعة على الحياة العامة للمجتمعات العربيّة بما فيها الدولة، مثلاً واضحاً عن تداخل المنحيين المذكورين. ومن الأمثلة الذائعة الصيت عن ذلك، شعار «الإسلام دين ودولة» و»الإسلام هو الحل»، وتمسّك «الإخوان المسلمين» إبّان حكم الرئيس محمد مرسي بأن يتضمن دستور 2014 مبدأ أنّ «مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع» القانوني في الدولة، بل أنها مرجعية في تفسير التشريع الدستوري للدولة. أليس واضحاً أن تلك المعطيات دلّت بوضوح على تجاوز الإسلام كدين على أديان الوطن كلها، في شأن لا علاقة بالإيمان الديني بل بالتشريع في الدولة؟ إلا يؤدّي ذلك إلى وضع المواطنين من الأديان الأخرى في مواطنيّة من الدرجة الثانية؟ ألا يبدو ما فعله الإرهاب الإسلاموي في المناطق التي سيطر عليها، خطوة أخرى في ذلك المنحى؟ ألم يظهر تشابك الإرهاب مع إسلامويّات أكثر اعتدالاً في تقبّل الأخيرة لاستناد «داعش» و»النصرة» على تفسير متطرف لمبدأ «إما اعتناق الإسلام، وإما الجزية أو السيف»؟ ومن المهم تذكّر تجربتين عربيتين مميزتين، في ذلك الإطار. هناك التجربة المتميّزة لـ «حركة النهضة» التونسيّة، التي أدى تسليمها بأولويّة الاجتماعي والإنساني، إلى صوغ دستور مدني يضع مسافة بين الدين والدولة، وهو أحد توصيفات العلمانيّة في الدول الحديثة. وكذلك فصلت «النهضة» بين عملها السياسي وعملها الدعوي، ما يوحي بقبولها التعامل مع الفكر الحضاري الإنساني في العمل السياسي، مع الابتعاد عنه في المنحى الإيماني الديني. ربما وصلت تلك التجربة في الحوار بين الحداثة الإنسانية والإسلاموية المعتدلة، إلى مستوى نوعي من التقدم، مع النقاشات الجارية منذ مطلع حزيران (يونيو) 2018 عن «تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة» في تونس. عندما يصبح التاريخ فخاً توحي تجربة «حزب العدالة والتنمية» في المغرب، بمسار مشابه لما يحدث في تونس، مع الإشارة إلى عمق مماثل في تجربة الدولة في المغرب. ثمة تجاهل شبه مطبق للتاريخ في الإسلامويّة، يفسّر كثيراً من الأفعال المتطرفة كما يثير قلقاً أصيلاً من آفاق تعامل الإسلاموية مع المجتمعات المعاصرة. هناك سيول من الكلام سكبت في ذلك المعنى، سواء من قبل الفقهاء والأئمة الذين سبق ذكرهم، أو من قبل المشتغلين بالفكر الحضاري الإنساني. يمكن استعادة ملمح خافت في ذلك النقاش، يتمثل رفض الإسلاموية للبحث في تاريخ الإسلام نفسه. ماذا كانت أديان العرب في الجزيرة قبل الإسلام، إضافة إلى اليهوديّة والمسيحيّة؟ إلى أي ديانة/ ديانات كانت تشير إليها تلك الأوثان في الكعبة؟ كيف تظهر صورة أديان الجاهلية في النص القرآني، خصوصاً آيات النقاش مع الجاهليّين؟ ما علاقة الأديان الجاهلية بالأديان غير الدينية في المنطقة، كعبادة إيزيس وأوزيريس في مصر (خصوصاً التوحيد الأخناتوني)، وديانات الآشوريّين والكلدان وغيرهم من شعوب ما بين النهرين؟ حتى في اللـغة العربيّة، هناك ذلك التجاهل للتاريخ الذي تتشاركه الإسلاموية مع تيارات يفترض أنها حداثية ومستنيرة. من أين جاءت اللغة العربيّة؟ ما هي علاقاتها مع اللغات المختلفة كالآراميّة والنبطيّة والسريانيّة، وصولاً إلى الهيروغليفيّة والأبجدية الفينيقيّة والمسمارية البابليّة؟ وتنطبق تلك الأسئلة نفسها على مناح أخرى في الثقافة والاجتماع. ويهدف ذلك إلى القول إن شعوب المنطقة تكوّنت عبر مسار تاريخي تضمّن الديانات السماويّة الثلاثة. وبقدر ما تبدو تلك الفكرة بديهيّة في الفكر الإنساني بتياراته المتنوّعة، فإنها تؤشّر على عمق الابتعاد بين ذلك الفكر والإسلامويّة. ويصح القول أيضاً إن التنويرين والحداثيّين يتحملون جزءاً من ذلك، لكن أي جزء؟ هناك ممارسات ظلاميّة تماماً ومديدة في ذلك الأمر. ماذا كان الأمر عندما طرح مفكر مستنير كطه حسين أسئلة عن لغات العرب وتسيّد لغة قريش في الإسلام، إضافة إلى مشكلات التناقل الشفاهي للتراث؟ لا داعي للتذكير بأمثلة قريبة كنصر حامد أبو زيد. صحيح أن هناك حوار مقطوع عربيّاً بين الفكر الإنساني وبين الإسلامويّة، لكن هناك أيضاً ترهيب إسلاموي في تلك المساحة، يستند إلى تأييد شعبوي ملفت. يرد إلى الذهن الجريمة النكراء لاغتيال المفكر حسين مروة بسبب اشتغاله في تلك المساحة، وهي جريمة تتصل بإسلاموية شيعيّة باتت طهران مركزها، وتقتضي كلاماً آخر.

مشاركة :