تقلبت حياة الممثل الإسباني أنطونيو بانديراس بين الانتصارات والهزائم. في الأساس لم تكن حياته سهلة. على سبيل المثال، كان يتمنى - ولا يزال - لو أنّه مارس رياضة كرة القدم وبرع فيها. يقول هنا: «كنت سأقود حياة مختلفة كثيراً. لست نادما على مهنتي كممثل، لكنّني فعلاً كنت أحب كثيراً لو أصبحت نجم كرة قدم». ما منعه هو حادث خلال أحد التمارين كسر قدمه. هُرع به إلى المستشفى وتم تطبيبها ووضعها في الجبس لعدة أشهر من ثمّ ابتسم له الطبيب وقال له تستطيع أن تستخدم قدمك كما تشاء الآن إلّا في لعبة الكرة. يكمل قائلاً: «شعرت حينها بأنّه سرق منّي بكلماته كل الأحلام. ولسنوات عديدة بعد ذلك، لم أكترث لأن أحقق حلماً ما». في الوقت ذاته، ونحن نتحدث عن شاب في العشرين من عمره، إذ وُلد في سنة 1960 في مدينة مالاغا، كان لا بد له أن يحلم إن لم يكن حباً بتحقيق رغبة معينة فلكي يعمل ويساعد ذويه. تبعاً لذلك اتجه بانديراس لدراسة التمثيل في مدريد. وهناك تعرف على لفيف من الطّامحين مثله. لكن المخرج بيدرو ألمودوفار أعجب به وحده وسارع لضمّه لفريق فيلمه «متاهة العاطفة» سنة 1982. تحت مظلة ألمودوفار بانديراس يشيد بأفلام أخرى للمخرج ألمودوفار ولا يذكر هذا الفيلم إلّا على أساس أنه كان بداية للعمل مع المخرج الإسباني المعروف. في ذلك الفيلم لعب دور مسلم اسمه صادق يعمل في خلية إرهابية متشدّدة لكنّه، في الوقت ذاته، مثلي الجنس. الموضوع ليس جدياً والمخرج عالجه على نحو ساخر ومرح، لكن ما كان همّ بانديراس آنذاك هو أنّه وضع قدمه على أول الطريق في المهنة التي امتدت به إلى اليوم. حين عاد ألمودوفار إلى أنطونيو بانديراس سنة 1986، ليشترك في بطولة فيلمه «ماتادور» كان بانديراس قد أصبح نجماً محبوباً وشقّ طريقه في نحو عشرة أفلام نصفها من بطولته ومن بينها فيلم للإسباني الشهير الآخر كارلوس ساورا هو «صور». يقول في حديث تلا مباشرة إعلان ترشيحات جائزة إيمي وتم في الطابق العلوي من فندق هيلتون في بيفرلي هيلز: «بالطبع كنت أعلم أنّني أمرّ في مرحلة انطلاق إمّا أن تنتهي بانتقالي إلى موقع أفضل في حياتي كممثل أو تلفظني بعد حين إذا ما أفلست من القدرة على إثارة الإعجاب. وكنت أدرك أنّني حلو الملامح، لكنّني كنت أدرك أيضاً أن هذه الميزة لا تستمر أبداً ولا تضمن النجاح». إذ يكشف عن ذلك يتساءل مباشرة بعد ذلك: «... لكن هل هناك ضمانة ما للنّجاح؟ لا أعتقد. بشدة لا أعتقد». عودته للعمل تحت مظلة ألمودوفار نتج عنها أربعة أفلام خلال الثمانينات أفضلها بالنسبة إليه، «قانون الرغبة» (Law of Desire) سنة 1987، بعد ذلك مضى كل منهما في سبيله حتى عاود المخرج الطّلب من بانديراس العمل معه سنة 2011، في فيلم «الجلد الذي أعيش فيه» (The Skin I Live In). «إذا سألتني عمّا خرجت به من تجربة العمل مع ألمودوفار، فالجواب أنّ هناك الكثير مما حدث معي بسببه ومن بين ذلك أنّ أفلامي السّابقة معه قدّمتني إلى العالم كما لم تفعل أي أفلام أخرى مثلتها في تلك الفترة. كان يمكن لي أن أبقى ممثلاً إسبانياً ناجحاً في بلده، لكن من دون تجارب خارجه. ربما كانت الفرصة ستسنح لاحقاً ولاحقاً جداً». حين أذكر له أنّ أول فيلم خارج إسبانيا قام ببطولته كان الفيلم الأميركي «ملوك المامبو» سنة 1992، يسارع لتصليح المعلومة: «لا. عملياً كان هذا الفيلم ثالث أعمالي في السينما غير الإسبانية. الأول كان في فيلم إيطالي عنوانه (أرض جديدة) قبل حوالي عام كامل على (ملوك المامبو). الثاني دور صغير جداً في فيلم مادونا (الحقيقة أو الجرأة) أيضاً سنة 1991». لكنّ هذا لا يهمّ كثيراً، ليس من النّاحية العملية على الأقل، لأنّ أوّل فيلم أميركي له جذبه إلى هوليوود كان «فيلادلفيا» مع توم هانكس في البطولة، وهذا قاده للاشتراك في فيلم «مقابلة مع فامباير» لنيل جوردان (1994) إلى جانب براد بيت وتوم كروز وكريستيان سلاتر. «كنت ما زلت لا أجيد الإنجليزية. في الحقيقة لم أكن أتحدث بها مطلقاً عندما وجدت نفسي في صحبة فريق (ملوك المامبو). تساءلت بيني وبين نفسي عن السبب وأعتقد أنني لم أخف تعجبي لأنّ أحدهم قال لي: أنت هنا لأنّك تستحق أن تكون هنا». مع الكبار بانديراس في ذلك الوقت، كان يمثّل حضوراً لافتاً بصرف النّظر عن حجم مفرداته اللغوية. هذا واضح من خلال اختياراته للأفلام التي عكس فيها شخصيات لاتينية أخرى بعد «ملوك المامبو» كما في «دسبيرادو» (1995) و«مغتالون» (Assissins). في كليهما دوره كان مؤلفاً من كلمات قليلة. في الأول هو مرياشي مكسيكي ينتقل بغيتاره ومسدسه بين البلدات، وفي الثاني هو خصم عنيد للممثل سيلفستر ستالون. وكل ذلك لم يكن سوى تمهيد لأحد أفضل أفلامه إلى اليوم وهو «إيفيتا» للمنعزل حالياً آلين باركر. > كيف كان شعوره عندما رُشح لجائزة «غولدن غلوبس»؟ - «حين وصلت إلى أميركا لم أكن أعرف إلّا كلمات قليلة باللغة الإنجليزية. لذلك حين استقبلت بعد أربع سنوات من قِـبل جمعية مراسلي هوليوود الأجانب، كنت كمن لا يزال يحاول الاستيقاظ من الحلم ويريد من أحدهم أن يقرصه ليتأكد من أنّه لا يحلم. كان موقفاً عاطفياً. أنظر الدّمع يترقرق في عيني حين أتذكر». حفلة توزيع جوائز غولدن غلوبس جرت في العام التالي بحضور مائة ممثل ومخرج ومنتج أو ما يزيد… «كيف تعتقد أنّني شعرت آنذاك؟ لا يمكن لي أن أصف اللحظة». جائزة أفضل ممثل آنذاك ذهبت إلى توم كروز عن دوره في «جيري ماغواير». كثيرون يقولون إن دوره كان جيداً، لكن أنطونيو بانديراس كان مبهراً. تبع ذلك نجاحات هوليوودية أخرى: «قناع زورو» و«المحارب الثالث عشر» (مع عمر الشريف) و«مجنون في ألاباما» وكلّها في أواخر التسعينات، ثم مال للتّعاون مع مخرج «المرياشي» روبرت ردوريغيز في سلسلة Spy Kid طوال العقد الأول من هذا القرن، لكنّه نوّع قليلاً فمثل أمام أنجلينا جولي في «خطيئة أصلية» (2001)، وأمام ساندرين بونير في فيلم برايان دي بالما «امرأة مميتة» (2002)، وحصد الإعجاب مجدداً أمام سلمى حايك في «فريدا» (2002)، واستمر نجمه لامعاً من ثمّ أُخذ من وجهة نظر نقدية محضة، ليخبو قليلاً في السنوات الأخيرة. > منذ بضع سنوات مال بانديراس للظهور في أفلام خفيفة الشّأن باستثناء أعمال قليلة كحال «فارس الكؤوس» (Knight of Cups) لتيرنس مالك. لكنّ غالبية أعماله كانت محض تجارية تضعه في أدوار شبيهة لبيرس بروسنان ويليام نيسون وكيفن كوستنر من بينها، على سبيل المثال «الرقم 33» و«إيجاد ألمتاميرا» و«عن شاي» و«فعل انتقام». هل هي بداية انحدار؟ أو مرحلة اضطرار؟ - «لا أنظر إليها على هذا النحو. إنّها مرحلة ضرورية للاستمرار. لو امتنعت وقرّرت أنّني أريد تمثيل الأدوار العميقة في أفلام من تحقيق مخرجين كبار لتوقّفت عن العمل بضع سنوات لأنّ مثل هذه الأدوار في مثل تلك الأدوار لا تأتي متتابعة. وآخر ما أودّ القيام به هو أن أتوقف عن العمل. لم أصبح ممثلاً لكي أجد نفسي عاطلاً عن العمل في يوم ما». بيكاسو > القفزة الرائعة بعد ذلك تتجلى في تمثيله وإنتاج المسلسل التلفزيوني القصير «عبقري: بيكاسو» الذي كان سبباً في زجّ اسمه في عداد المتنافسين على جائزة «إيمي» كأفضل ممثل. كيف حدث هذا الفيلم؟ - «هو حلم قديم لدي. مشروع حياة فكرت فيه قبل أكثر من خمس عشر سنة. ليس لأنّ بيكاسو وأنا ولدنا في مدينة واحدة تفصل بيننا أكثر من مائة سنة، بل لأنّه فنان. العالم يرى النّوعية الكبيرة لأعماله ولا أذكر أنّ هناك فيلماً حُقّق عنه، ولا تسألني عن السّبب. لا أدري. لكنّني منذ البداية وأنا مشدود لهذا العمل وسعيد أنه جرى في هذه الآونة بالذات». > هل يرى أنّ الوقت الرّاهن جيد لهذا الفيلم من زاوية خبرتك كممثل عبر السنين؟ - «نعم لكن أساساً من زاوية أنّني في السن الصحيحة وأنّ السينما لم تقدم فيلماً عنه. ليس باللغة الإنجليزية. أعلم أنّه ليس فيلماً سينمائياً بل مسلسل تلفزيوني، لكنّ هذا رائع جداً بحد ذاته. حين بُثّ قبل أشهر نال إقبالاً كبيراً بين مشاهدي التلفزيون. كما تعلم يتألف المسلسل من 10 حلقات والإقبال كان شبه متساوٍ منذ البداية». لا يتعامل المسلسل مع النقاط المضيئة في حياة بيكاسو كونه واحد من أفضل وأشهر رسامي التاريخ، بل يسلّط الضوء كذلك على بعض ما هو أقل من عبقري بالنسبة لذلك الفنان. السبب بالنسبة لأنطونيو بانديراس واضح: «لا أحكم على الشخصيات التي أقوم بتمثيلها أخلاقياً. لا أُمثّلها لأنّها خيرة أو لأنّها شريرة، لأنّ الخير والشر متلازمان في النفس البشريّة. ما أحاول القيام به حيال شخصياتي هو أن أمثّلها كبشر. وكلنا بشر نسافر في هذه الحياة. نتقدم ونتأخر. نصيب ونخطئ وبيكاسو ليس مختلفاً. لا أحد مختلف. وجدته فناناً كبيراً كرسّام ووجدت حياته الخاصة مليئة بالمواقف التي تكشف عن نرجسيته. شخصيته معقّدة وصعبة، لكن أليس هذا حال العباقرة؟ ما هو العامل المشترك بين أن تكون عبقرياً وشخصاً صعباً في الوقت ذاته؟». > «عبقري: بيكاسو» مشروع العمر كما يؤكد بانديراس. هل خشي أحياناً من أن لا يتمكن من تحقيقه؟ يجيب: «نعم. في بعض السنوات الأولى من المشروع، لكنّ ثقتي به ازدادت مع دخول الإنتاج مرحلة جدية وهذه المرحلة بدأت بتبني رون هاوارد المشروع كمنتج وتمويله من قبل (ناشنال جيوغرافيك). أنا ممتن لهذه المؤسسة الرّائعة التي لم تتدخّل في أي من مراحل الإنتاج بل تركتنا نعمل عليه بحرية كاملة». > هل خشيت أن يأتي تمثيلك مختلفاً بشكل ما عن بيكاسو كما وثّقه التاريخ؟ - «لا... لم يكن مطلوباً مراعاة النّواحي التشخيصيّة ذاتها. هناك مستوى محدّد على الممثل أن يوازن عنده بين أدائه وبين الشخصية التي يقوم بتمثيلها. ما فعلته هو أنّني مثّلت السنوات الناضجة من حياة بيكاسو ولعب غيري أدواره شاباً. هي 10 حلقات كان عليها أن تلمّ بأحداث كثيرة وبشخصيات أحاطت به أو عاصرته ولو أنّه المحور الدائم لها جميعاً».
مشاركة :