تيم فوكس* يبدو مدهشاً حفاظ الجنيه الاسترليني على أدائه، بل وحتى ارتفاع قيمته في أعقاب الاستقالات الحكومية الأخيرة؛ وربما كان ذلك نتيجة الاعتقاد أن رحيل أبرز المؤيدين ل«بريكست» سيؤمن لبريطانيا خروجاً «ناعماً» من الاتحاد الأوروبي.هيمنت على تطورات السوق، العديد من الأحداث التي شهدتها المملكة المتحدة الأسبوع الماضي، حيث نشرت الحكومة البريطانية كتابها الأبيض للخروج من الاتحاد الأوروبي، وأفضى ذلك إلى استقالة وزيرين بارزين منها. كما تعرضت حكومة تيريزا ماي لهزة عميقة إثر زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المملكة المتحدة، حيث ألقى انتقادات لاذعة لاستراتيجية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وجاء خروج المنتخب الانجليزي من بطولة كأس العالم ليزيد الطين بلة. وبعد عامين على إجراء استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أخفق اتفاق التسوية الذي توصلت إليه حكومة تيريزا ماي بشأن مفاوضات «بريكست» في توفير مستوى معقول من الثقة. ونتج عن ذلك استقالة عضوين بارزين في مجلس الوزراء البريطاني هما الوزير المكلف بملف «بريكست» ديفيد ديفيس، ووزير الخارجية بوريس جونسون، إضافة إلى عدد من كبار المسؤولين. وقد يطيح ذلك أيضاً بالجهود المبذولة خلال الأشهر التسعة الأخيرة من المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، عدا عن تنامي الشكوك حيال بقاء الحكومة البريطانية أصلاً. وبناءً على ذلك، يتزايد احتمال فشل المحادثات في نهاية المطاف مع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في الربيع المقبل دون أي اتفاق لتخفيف آثار خروجها. وفي خضم هذه التطورات، يبدو مدهشاً حفاظ الجنيه الاسترليني على أدائه، بل وحتى ارتفاع قيمته في أعقاب الاستقالات الحكومية الأخيرة؛ وربما كان ذلك نتيجة الاعتقاد أن رحيل أبرز المؤيدين ل«بريكست» سيؤمن لبريطانيا خروجاً «ناعماً» من الاتحاد الأوروبي. ويبدو ذلك مقصد تيريزا ماي في منح المملكة المتحدة ما يشبه «عضوية الشراكة» في السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي عبر مجالات رئيسية مثل تجارة السلع الصناعية والمنتجات الزراعية. إذا كان هذا هو المراد، فلا يزال من السابق لأوانه الجزم أنه سيحظى بالتأييد أصلاً. ومن أسباب ذلك أن الاتحاد الأوروبي سيرفض على الأرجح العناصر الرئيسية في الكتاب الأبيض للحكومة البريطانية، الأمر الذي يهدد التماسك الظاهري لحكومة ماي الجديدة. في الواقع، فإن أي تنازلات أخرى إلى أوروبا قد تدق المسمار الأخير في نعش حكومة ماي مع احتمال واضح لإجراء انتخابات عامة مبكرة. وقد يعجل إجراء مثل هذه الانتخابات في تأمين خروج «ناعمٍ» لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي إذا ما قُدِّر لحزب العمال المعارض أن يفوز فيها، غير أن النتائج المفاجئة لانتخابات العام الماضي كشفت أن النتيجة غير مضمونة بأي حال من الأحوال.وهناك سبب وجيه آخر لكون أسواق المملكة المتحدة أقل تأثراً بالتطورات السياسية الأخيرة مما كان متوقعاً لها؛ فرغم الموجة التشاؤمية حيال انفصال المملكة عن الاتحاد الأوروبي منذ استفتاء «بريكست» في 2016، لكن الانكماش الاقتصادي لم يكن سيئاً كما كان يُخشى. وكانت وزارة الخزانة البريطانية قد حذرت قبل الاستفتاء من أن التصويت لصالح الانفصال سيؤدي إلى ما وصفته ب «صدمة اقتصادية فورية وعنيفة» مع دخول المملكة في «ركود فوري» واحتمال فقدان 800 ألف وظيفة في غضون عامين. وكانت مديرة «صندوق النقد الدولي» كريستين لاجارد قد أشارت إلى أن عواقب مغادرة الاتحاد الأوروبي تتراوح بين «السيئة جداً إلى الكارثية». لكن العامين المنصرمين أظهرا صورة مناقضة تماماً، حيث شهد اقتصاد المملكة في عام 2017 نمواً مطّرداً بمعدل 1.7٪، إضافة إلى انخفاض معدل البطالة إلى أدنى مستوى له خلال 43 عاماً مسجلاً 4.2٪. وربما تعلمت الأسواق من ذلك ألا تعير اهتماماً كبيراً للمتشائمين كما فعلت قبل الاستفتاء. بل على العكس تماماً، فإنها قد تكون محقة بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن يكون كارثياً كما توقع العديد من صنّاع القرار. وقد سارع بنك إنجلترا إلى إلغاء قرار خفض أسعار الفائدة الطارئ الذي صدر بعد الاستفتاء مباشرةً، وهو يستعد حالياً لرفع أسعار الفائدة مرة أخرى في شهر أغسطس المقبل على الأرجح، وذلك في ضوء تحسن البيانات الاقتصادية للربع الثاني من العام.لكن لا شك بأن البعد السياسي يقوض تلك النظرة الإيجابية. فرغم أن الجنيه الاسترليني لم ينهار الأسبوع الماضي، لكن تحسنه كان محدوداً ومن المحتمل أن يظل كذلك في ظل حالة انعدام اليقين السياسي السائدة.والجدير بالذكر أن مؤشر سعر صرف الجنيه الاسترليني يقترب حالياً من منتصف نطاق تداوله منذ استفتاء عام 2016. ومع احتمال انتهاء مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بحلول نهاية شهر أبريل 2019، فإن هذا قد يثبط الاتجاه الصعودي للجنيه الاسترليني؛ حيث تنحصر قدرته على تحقيق مكاسب كبيرة في حال استمرار تراجع الدولار. ولكن مع تزايد احتمالية سقوط الحكومة البريطانية، فإن هبوط الجنيه ربما يكون أقل المخاطر سوءاً. * رئيس قسم الأبحاث وكبير الاقتصاديين في مجموعة «بنك الإمارات دبي الوطني»
مشاركة :