كان ولا يزال حلف شمال الأطلسي، «الناتو» مثارا للجدل، ليس فقط لكونه أحد آليات الدول الغربية خلال الحرب الباردة التي انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتي السابق عام 1990. واستمراره حتى الآن؛ وإنما بسبب الخلاف داخل الحلف ذاته، والذي ظهر بصورة كبيرة خلال قمة الحلف الأخيرة، التي اجتمعت في العاصمة البلجيكية، «بروكسل»، في الحادي والثاني عشر من يوليو الجاري، وخصوصا مع استمرار الرئيس الأمريكي «ترامب» في حملته لتقويض شراكة عمرها عقود، الأمر الذي قد يرتب تحديات هائلة لأمن أوروبا. تناولت قمة «الناتو» الـ29 التي انعقدت بمشاركة وفود 29 دولة، خمس قضايا رئيسية تشمل؛ الردع والتحديث والعلاقات مع الاتحاد الأوروبي، والتركيز على الاستقرار في المناطق الواقعة على الحدود، خصوصًا الجنوب، وتقاسم الأعباء، وكذلك اتخاذ إجراءات «لإدارة» العلاقات مع روسيا». وتأتي قمة 2018 في وقت صعب، إذ أصبحت العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا تتعرض لضغوط بسبب الإجراءات الجمركية الأمريكية، وانسحاب «ترامب» من الاتفاق النووي الإيراني، إضافة إلى مبادرته لتحسين العلاقات مع الرئيس الروسي، فلادمير بوتين، وعقد قمة ثنائية بينهما في العاصمة الفنلندية، «هلسنكى»؛ وهو ما يعيد مخاوف الحلفاء الأوروبيين من التقارب بين الرئيسين، فضلا عن أنها تأتي على خلفية تزايد القلق حيال النشاط الروسي في مجالات الحرب الهجينة والحرب المعلوماتية. وفي انعكاس لعمق الأزمة، قال الرئيس الأمريكي، عشية قمة الحلف «إن لقاءه مع الرئيس الروسي في هلسنكي قد يكون أسهل من قمة الأطلسي». وقال أيضًا يوم 15/7/2018 في تصريحات لشبكة سي بي اس «إن روسيا والاتحاد الأوروبي والصين خصوم الولايات المتحدة». وبحسب صناع السياسة والمحللين، خلق حضور الرئيس «ترامب»، حالة من الريبة، أفسدت روح الود المعتادة للاجتماع، حيث يُنظر إلى رؤيته القومية والعالمية على أنها لا تتوافق مع أساسيات الناتو، حيث استخدم القمة كمنبر لتقويض ومهاجمة المنظمة -كما فعل العام الماضي- مُسببًا على الأرجح أضرارا في الجوانب العملية، والمعنوية لأعضاء الناتو. فعلى الرغم من تصريحات الممثلة الدائمة للولايات المتحدة في حلف (الناتو)، «كاي بيلي هتشيسون»، بأن «هدف أمريكا التأكيد على التزامها للحلف «بالقوة والوحدة»؛ كانت تصريحات «ترامب تحمل أولوية واضحة هي «ضمان التزام أكبر من نُظرائه بالإنفاق العسكري». ويتمثل الاعتراض الرئيسي لترامب، في أن جميع الدول الأعضاء، باستثناء عدد محدود، لم ترفع بعد ميزانياتها الدفاعية للوصول إلى نسبة لا تقل عن 2% من ناتجها الاقتصادي السنوي من أجل الدفاع، بحلول عام 2024، والمبنية على أساس إعلان تنظيمي صدر في قمة «ويلز» عام 2014. ولتأكيد هذا الهدف، كان النقد الذي ألقاه «ترامب» على دول الحلف لاذعًا، حيث صعد من لهجته في رسائل موجهة إلى المستشارة الألمانية، إنجيلا ميركل، ورئيس وزراء كندا، جوستين ترودو، وزعماء بلجيكا والنرويج، كما ألمح الى أنه ربما يفكر في حدوث تحول في الموقف العسكري الأمريكي إذا لم يقم القادة بزيادة نفقاتهم الدفاعية. واصفا الذين فشلوا في تحقيق هذه النسبة بـ«المُقصرين». وخلال اجتماعه مع الأمين العام للحلف، «ينس ستولتنبرغ»، أشار إلى أن الدول الأوروبية، مُدانة للولايات المتحدة بتكاليف قديمة»، ولعل هذا الأمر هو ما فعله الرئيس الأمريكي خلال قمة الناتو العام الماضي، حينما اتهم حلفاءه الأوروبيين بأنهم يدينون بأموال طائلة للناتو». وتاريخا، دأب رؤساء الولايات المتحدة السابقون على حث أوروبا على تحمل المزيد من مسؤولية الدفاع عن أنفسهم وتخفيف العبء الذي تتحمله أمريكا، للحفاظ على تواجدها العسكري في أوروبا بعد انتهاء الحرب الباردة ؛ لكن لم يقم أحد منهم بما يفعله ترامب. وعلى الرغم من النبرة الحادة لترامب في هذه المسألة، كانت موجهة بشكل مباشر الى جميع الدول الأعضاء في الناتو؛ فإن معظم انتقاداته كانت ضد ألمانيا بشكل خاص، على خلفية أن بريطانيا نجحت في زيادة الإنفاق الدفاعي، حيث أنفقت 2.1% من الناتج المحلي على الدفاع عام 2017، وتعهد فرنسا بزيادة إنفاقها العسكري في المستقبل القريب. وبالتالي حظيت ألمانيا بمعظم الانتقادات، بسبب إنفاقها نحو 1.2% فقط، في الوقت الذي تنفق الولايات المتحدة 4.2%».. علاوة على أنها تتمتع بحماية إضافية من خلال القاعدة العسكرية الأمريكية الدائمة الموجودة على أرضها، وهو ما ضاعف من الانتقادات لها. وتوالت انتقادات «ترامب» لبرلين على خلفية قضايا مثل «أزمة اللاجئين»، و«منطقة اليورو»، بالإضافة إلى «صفقة خط أنابيب الغاز التي أبرمتها مع روسيا»، حيث قال: إن «ألمانيا تثري روسيا، إنها رهينة روسيا». مضيفا، ألمانيا «تدفع مليارات الدولارات لروسيا لتأمين إمداداتها بالطاقة، وعلينا الدفاع عنهم في مواجهة روسيا». وهو الأمر الذي رأى فيه المحللون تحولاً في موقف الرئيس الأمريكي، الذي يشجع على الحوار والمصالحة مع موسكو. ومع ذلك أرجع البعض هذا التوجه الجديد إلى رغبته في اتخاذ موقف صارم لتبديد المزاعم حول التقارب مع الرئيس الروسي، «بوتين». وجاءت انتقاداته لألمانيا على خلفية تصريحات سابقة له خلال قمة الناتو العام الماضي، عندما صرح بأن السياسة الألمانية، «سيئة للغاية» بالنسبة إلى بلاده، فهي تدفع أقل مما يجب في الناتو». وكانت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، قد صرحت في وقت سابق بأن أوروبا لم تعد قادرة على الاعتماد على التحالفات التقليدية، قائلة: «علينا أن نحدد مصيرنا بأنفسنا، فلقد انتهى الوقت الذي يمكننا فيه الاعتماد على الآخرين بشكل كامل». ومن جانبه، قال «شارل ميشيل»، رئيس وزراء بلجيكا، إن الحلف في الوقت الحالي، يواجه العديد من التحديات والتهديدات الكبرى، إلا أن الأعضاء عليهم التمسك بهدف الحفاظ على بقائه». وتعهد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال القمة بدفع حصة فرنسا من الإنفاق العسكري للناتو، داعيا الى عدم الاندفاع نحو التوسع حاليا. وفي تعليقه على سياسة الرئيس الأمريكي، أكد وزير الخارجية الفرنسي، «جون إيف لودريان»، أن «ترامب» يتعامل مع الأمور بمعيار الأقوى، لافتًا إلى أنه يميل إلى تفكيك كل الأدوات المتعددة الأطراف»، مضيفا «ترامب» لا يطيق تكتل الاتحاد الأوروبي، الذي أظهر أعضاؤه تضامنهم مع بعضهم وإصرارهم». ومن جانبها، أكدت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، أنها ستظل عضوا فاعلا في الحلف، وستؤدي دورها لضمان الأمن المشترك للدول الأعضاء، وإن كانت أقرت بوجود «بعض المشكلات» المتعلقة بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني. فيما رأى أمين عام حلف الناتو، «ينس شتولتنبرغ»، ان الإبقاء على الشراكة الأطلسية يمثل مصلحة استراتيجية عليا لجميع الأطراف». وبالطبع كل هذا السياق من تصاعد العداء بين الولايات المتحدة وأوروبا، كان كفيلاً بإثارة القلق والشكوك حول مصير الناتو وحدود الدعم الأمريكي له. فعندما سُئل «ترامب» في اليوم الأخير من القمة، إذا كان يفكر في الانسحاب من الناتو، أجاب: «أعتقد بمقدوري ذلك». ومما لا شك فيه أن الناتو، تضرر سياسيا وعسكريا، جراء سياسات «ترامب»، ونفوره الطويل الأمد من الحلف. ومع ذلك، يختلف المحللون حول مدى خطورة هذا الضرر: هل هو قصير الأجل ويمكن محوه بسهولة إذا ترك «ترامب» منصبه، أم انه طويل الأجل، وربما يضر ببقاء حلف الناتو؟ ويستند أولئك الذين يرون أن سلوك «ترامب» إشارة إلى نهاية الحلف في المقام الأول على أن تصرفاته الحالية تتسبب في «انخفاض قدرات القوة الناعمة لدى الناتو»، بوصفه منظمة عسكرية. وتتبدى هذه المشكلة، بالأخص في الحالة الروسية التي سعت منذ ضم منطقة القرم إليها عام 2014 إلى التعدي على نفوذ حلف الناتو في أوروبا، وتقويض قدرته على استخدام القوة الناعمة من أجل جذب مزيد من الدول إلى مجال نفوذه، فضلا عن أنه إذا ما قرر «ترامب» الانسحاب من المنظمة، كما هدد في قمة 2018. فربما تجد روسيا نفسها في وضع أفضل يسمح لها بتوسيع سياستها الخارجية العدوانية في أوروبا، وهو ما أوضحه «توماتاس فالاسك»، المحلل في مركز «كارنيجي» للأبحاث ببروكسل بقوله: «بدون الدعم الأمريكي، فمن المُحتمل أن تُصبح أوروبا مكانًا أكثر خطورة». إلا أنه وفقا لخبراء ومحللين، يضع الناتو درجة كبيرة من التركيز على محاولة إقناع «الرأي العام للبلدان الأعضاء في الناتو بأن الحلف منظمة فعالة ومتماسكة، وبدونه لن يُصبح من الصعب ضمان أمن أوروبا وأمريكا فحسب، بل استتباب الأمن في جميع أنحاء العالم». فيما يتبنى الكثير من المحللين موقفًا لا خلاف عليه فيما يتعلق بضرورة استمرارية هذا الحلف قويا لعدة أسباب منها؛ أولا: استمرار الحرب العالمية ضد الإرهاب. وثانيا: التهديد الإيراني، حيث أعرب البيان الختامي للقمة عن قلق قادة الحلف من «الأنشطة المزعزعة للاستقرار التي تقوم بها إيران في الشرق الأوسط. ثالثا: وجود العديد من الأزمات التي تمثل تهديدا لبعض دول الحلف، مثل الأزمة السورية. رابعا: صعوبة إيجاد بديل ذاتي للأمن الأوروبي في الوقت الحاضر. خامسا. تنامي النفوذ الروسي في مناطق يرتبط الحلف معها بشراكات مهمة. وفي هذا الصدد، يرى «روبن نيبليت»، مدير المعهد الملكي للدراسات السياسية، «تشاتام هاوس»، بريطانيا، «أن الحلف أصبح أكثر ملاءمة لتحقيق أهدافه باعتباره قوة عسكرية، فهو لا يزال خلف الكواليس تكتًلا عسكريًا هائًلا يجري تطويره باستمرار». وقد تكثف هذا التطوير، ولا سيما منذ قمة «ويلز» عام 2014، ردًا على الغزو الروسي لأوكرانيا، والتزمت الدول الأعضاء، وقتئذ، بعدد من الإصلاحات الداخلية، منها؛ التعهد بزيادة الإنفاق العسكري بنسبة 2% سنويًا. ووفقا لتقرير كل من «جوليان سميث»، و«جيم تاونسند» لمجلة فورين آفيرز الأمريكية، فإن قمة الحلف لعام 2018 جاءت لتؤكد أن الحلف ما زال قادرًا على المضي قدما حتى عندما يتخلى أعضاؤه الأقوى عن مواقفه التقليدية القيادية». فبغض النظر عن ادعاءات ترامب، فإن الإنفاق الدفاعي داخل الحلف، ازداد بشكل هائل في السنوات القليلة الماضية. فبدءًا من عام 2015 إلى عام 2017. كانت هناك زيادة في الإنفاق الدفاعي التراكمي بلغت 46 مليار دولار بشكل عام بين الدول الأعضاء. ومن الناحية العملية، اتخذ الناتو خطوات فعالة نحو تعزيز قدراته العسكرية. ففي مطلع هذا العام، اتفق كل من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية، إنجيلا ميركل على العمل معا من أجل تطوير حالة الاستقلالية الذاتية الاستراتيجية الأوروبية بعيدا عن الولايات المتحدة، والسعي إلى تنفيذ وتطوير تكامل دفاعي على مستوى القارة ككل، فضلاً عن شراكة أكثر إحكامًا وقوة بين كل من الاتحاد الأوروبي والناتو، والذي من المرجح أن يساعد أوروبا في البقاء بمعزل عن تقلبات وسياسات ترامب ويعزز من قوتها أيضا ضد التهديدات الخارجية. وفي هذا الإطار، يذكر ستيفن م. والت، بمجلة فورين بوليسي الأمريكية، أنه «على الرغم من أن سياسة «ترامب» الخارجية منيت بإخفاقات دبلوماسية، فإنها أدت إلى تحمل أوروبا مزيدا من المسؤولية عن نفسها». ومع ذلك حققت القمة وفقا لعدد من المحللين الأمريكيين، انتصارا جديدا للرئيس، «ترامب»، الذي أثبت أن نهجه في الضغط على حلفائه من خلال الهجوم والتصريحات المثيرة للجدل، ربما يكون الأفضل في التعامل على صعيد القضايا الخلافية، فبحسب «واشنطن بوست»، كان نتيجة زيادة أمريكا الضغط على الحاضرين في القمة؛ اقتراح زيادة أهداف الإنفاق الدفاعي المتفق عليه من 2% إلى 4%». وفيما يبدو، كانت هذه الآلية، هي التي استخدمها «ترامب» للعمل على انضمام الدول الأعضاء في الحلف إلى التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد تنظيم «داعش». على العموم، بالرغم من التحديات التي يواجهها حلف الناتو في الوقت الراهن، والتي لا تنذر بحرب باردة جديدة فحسب، بل اكتمال حزام الأزمات حول مناطق النفوذ الاستراتيجي للحلف، فإن ذلك من شأنه ليس فقط استمرار الحلف، بل السعي للتكامل ودعم الاتحاد الأوروبي، بالنظر إلى استمرار التحديات الأمنية التي تواجه المنظمتين. وبالتالي فإن النتيجة الأكثر أهمية لهذه القمة هي التزام ثابت بحلف الناتو القوي، والاستعداد للإسهام في استقراره، والتكيّف مع التحديات المستقبلية. وبغض النظر عن الخطاب العدائي لترامب تجاه شركائه التقليديين؛ فإن ذلك لا يعني نيته الانسحاب من الحلف، أو الدعوة لإلغائه، وإنما ممارسة المزيد من الضغوط تجاه تلك الدول من أجل الالتزام بالنسبة المقررة للنفقات الدفاعية ضمن توجهاته «أمريكا أولا».
مشاركة :