الموازنة الواجبة بين أصالة الموروث ومقتضيات العصر

  • 7/21/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

لا يختلف عاقلان في أن الطفل يتأثر بمحيطه الأول الذي نشأ فيه – أي: العائلة-.. إلا أن هذا الطفل سيعيش في عالَمٍ مختلف كثيراً عما عاشه أبواه. فما الحدود الفاصلة بين التأثير الإيجابي والسلبي تربوياً، لئلا يعاني الطفل صراعاً نفسياً في مستقبله، عندما تتعارض موروثاته مع متطلبات زمانه؟ معاناة الآباء!! الدكتورة أسماء الضبع خبيرة التنمية البشرية والمستشارة الأسرية تقول: أصبح الآباء والمربون في حيرة من أمرهم ما بين الطفرة التي حدثت وتحدث في التكنولوجيا والإعلام والمحتوى الإعلامي والمتغيرات الاقتصادية والسياسية وغيرها والتي أصبحت قوية جداً ومتسارعه لدرجة لا نكاد نستطيع مواكبتها في بعض الأحيان وفي بعض الأشياء، وبين ما تربى عليه جيل الآباء والمعلمين والمربين من أصالة الماضي وهدوئه وقلة المتغيرات وقوة القيم والعادات الاجتماعية وقوة العلاقات ورسوخها؟ وتضيف: أصبحت تنشئة الأبناء في العصر الحديث هي المعادلة الصعبة بالنسبة للآباء بسبب ذلك فقد وجدوا معظم ما ألفوه ونشؤوا عليه غريباً ومنبوذاً وغير مألوف لجيل الأبناء بعد أن ظللنا لعقود نتوارث العادات والتقاليد والأفكار وأسلوب التربية أباً عن جد ولكن بالتأكيد علينا أن نتفاعل مع متغيرات العصر وأن نواكب هذه الطفرة التكنولوجية والإعلامية وبالتالي الطفرة التي نتجت في شخصيات الجيل الجديد وأسلوبهم في الحوار ومستوى ذكائهم واستيعابهم.. إلخ، فالأمر كما قال رابع الخلفاء الراشدين علي رضي الله عنه: (لا تربوا أبناءكم كما رباكم أباؤكم فإنهم قد خُلقوا لزمان غير زمانكم)، ولا أحد يستطيع أن يعود بالزمان للوراء أو يوقفه ولا أحد يستطيع أن يقف ضد تيار التطور والتكنولوجيا... ولكن لابد من أن نقف في وجه أي عادات لا تناسب تراثنا الإسلامي وهويتنا وثقافتنا العربية الأصيلة فعلينا الدمج ما بين الأصالة والمعاصرة وقد يبدو الأمر صعباً أحياناً لكنه بإذن الله يسير لمن يحرص على تكامل الأجيال والعصور والثقافات دائماً وأبدأ فعلينا أن ننتقي من هذا وذاك ونقوم «بفلترة» لنبذ كل ما هو مؤذٍ أو غير مناسب من هذا وذاك.. ولإحقاق الحق فإنه من بعض الموروثات مقولات وأمثال متعارف عليها تستحق أيضاً إعادة النظر والتعديل أحياناً مثلما يوجد في مستجدات العصر الحديث ما يستحق الفلترة وإعادة النظر والتعديل أو الحذف أحياناً فهذا هو دور المربي إذن هو اختيار وترسيخ كل ما هو مفيد ومناسب لأبنائنا بما يحفظ تراثنا وهويتنا وأن نُكَرِّه إليهم كل ما هو مرفوض ومتعارض مع ثقافتنا ومنبوذ لدينا، ولكن من المعلوم أن هذا الجيل نسبة ذكائهم واستيعابهم وانفتاحهم ومعرفتهم عالية بحكم مستجدات عصرهم، وبالتالي فإنه علينا كمربين التعاطي مع ذلك واستثماره من خلال لغة الحوار واحترام عقليتهم وإقناعهم والإنصات لهم واحتضانهم واحتوائهم لحمايتهم وقت اللزوم من بعض الأخطار التي قد تحدق بهم مثل أخطار بعض الألعاب الإلكترونية أحياناً أو بعض الأفكار الإرهابية والتكفيرية.. إلخ، وأن هذا الدمج الذكي وانتقاء المناسب من أصالة الماضي وتطور الحاضر هو الأمر الطبيعي وهو حلقة الوصل بين الجيلين وهو الربط الطبيعي بينهما فعلينا أن نحسن الانتقاء ونحسن إقناع الأبناء بما ننتقيه وسبب ذلك الانتقاء وتربيتهم بأسلوب القدوة وليس التلقين والإجبار والفرض ولا بأسلوب الضرب الذي كان يعتمده بعض المربين سابقاً لأنه عنف ضد الأطفال ومرفوض ولأنه لا يرسخ قيماً ولا يحل مشاكل ولكنه يزيد الفجوة بين المربي وبين الأبناء وكذلك ليس بالصراخ ولا القسوة فكل هذه الوسائل ليست بوسائل تربوية ولا عقلانية ولا بد أن تكون العلاقة دائماً بين المربي وبين الأبناء يكسوها الحنان ويغمرها الحب والدفء والتواصل والتفاهم ولغة الحوار الإيجابي الفعال مع تعزيز كل القيم الأصيلة الغالية التي نشأنا عليها مثل التكافل واحترام وتوقير الكبير ورحمة الصغير والمواساة في الأحزان والتهنئة في الأفراح والتواصل وتعزيز العلاقات مع الجيران وصلة الرحم وثقافة الاحتشام وعدم الانبهار والتقليد الأعمى للغرب وأن نقوم بتعليم الأبناء مهارة التفكير المنطقي التحليلي ليستطيعوا هم معرفة الجيد من الخبيث كي يتمكنوا من رفض غير المناسب مما يُعرض عليهم من أفكار، فالآباء والمربون لم يعودوا هم مصدر المعلومات الوحيد للأبناء مثلما كان في العصر الماضي ولن يستطيع الآباء إحاطة الأبناء وتقييدهم في كل وقت وفي كل مكان أو حصارهم ورصد كل ما يعرض عليهم من أفكار ففي عصر العولمة قد لا يعرف المربي ما يصل للأبناء ومن أين؟ فأفضل شيء هو أن يتسلح الأبناء بقوة الشخصية ليتمكنوا من الرفض وقت اللزوم وقول لا متى وجبت، ومصارحة الأهل عندما يلزم ذلك وإعمال العقل في كل ما يعرض عليهم ويصل إليهم ونظل نلهج بالدعاء لله سبحانه وتعالى أن يهدي أبناءنا ويوفقهم ويصلح حالهم فهو وحده ولي ذلك والقادر عليه مهما بذلنا من مساعٍ وجهود. بين الوراثة والبيئة الاستشارية النفسية الدكتورة أسماء عبد العظيم تقول: من مكونات الشخصية الجينات الوراثية والسمات الانفعالية لذلك طفلي لن يختلف عنى فهو يحمل جيناتي الوراثية ولكن يوجد مكون من مكونات الشخصية وهو الظروف البيئية فالمسجد والشارع وجماعة الأقران والجيران والتلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي لها تأثير على شخصية الطفل لذلك لست وحدك من تربي فحولك الجميع يؤثرون في شخصية ابنك لذلك علينا أن ننتبه للبيئة المحيطة لأن أولادنا ينشؤون في زمان غير زماننا فضلًا عن أن الثقافة السائدة في المجتمع أيضاً تؤثر على شخصية الطفل (هذا حرام وهذا حلال وهذا عيب) ولا بد أن نعي جيداً أن الصحة النفسية نسبية بمعنى أنها تختلف من شخص لشخص وكذلك باختلاف المجتمع وأهدافه كالاختلاف بين عادات الشرق والغرب فكلانا يرى الآخر غير سوي، والسؤال هنا هل أربى ابني على المورثات والعادات والتقاليد؟ نعم أربيه على عرف المجتمع وعاداته لأن ذلك علامة من علامات السوية النفسية في المجتمع ولكن نضع في اعتبارنا تقبل الزمن الذي نعيش فيه ونعمل دائماً على دمج ما يجب أن يكون وما يمكن أو المسموح به فلا نجبر أبناءنا أن يعيشوا كما عشنا لأنهم لن يستطيعوا أن يعيشوا حياتنا ولن يستطيعوا أن يعيشوا حياتهم وهنا ينشأ إنسان مزعزع ورخو مشتت يشعر بأنه بلا هوية ويعاني من عدم الإحساس بالاستقرار النفسي وغير متكيف مع زمانه ومضطرب في العلاقات الاجتماعية فلا يعرف كيف يتعامل ولا كيف يتصرف؛ لأن ما تربى عليه عكس ما يحدث في المجتمع وقد يصل الأمر عند بعض الأطفال إلى الإحساس بالكآبة والظلم والحرمان.. الاعتدال لا إفراط ولا تفريط وتضيف الدكتورة أسماء: سأطرح لكم مثالاً بسيطاً فألعاب الأطفال على الجوال عادة لم تكن معروفة لدينا ولها أخطار على عين الطفل وتركيزه فلا بد من الاعتدال لا إفراط ولا تفريط بمعنى ألا نترك الجوال طوال الوقت للطفل يضعف تركيزه ويؤذي عينه وقد يصيبه بالتوحد، ولكن نعتدل بتحديد عدد ساعات ممارسة الألعاب واختيار محتوى اللعبة ومتابعة الأبناء باستمرار والتنويع بين اللعب على الجوال والألعاب الحركية والذهنية وبذلك ألبي شغف طفلي باللعب على الجوال ولا أؤذيه بكثرة الجلوس أمامه. جناحان لازمان الدكتورة سامية قدري أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس تؤكد أن في التربية القديمة بعض القيم الأصيلة التي ينبغي غرسها في النشء كما أن أساليب التربية الحديثة ضرورية أيضاً حتى لا يصبح النشء نشازاً عن مجتمعه المتغير، ويحتاج هذا الدمج بين القديم والحديث إلى حكمة وعقلانية لتمييز الغث من السمين. أما الاستشارية النفسية والعلاج الأسري الدكتورة إيمان عبد الله فتقول: الإسلام حسم الأمر وحافظ على القيم الأساسية لأن هناك صراعاً دائماً بين التربية القديمة والحديثة.. ونحن نريد أن نربي أولادنا بتميز حتى يختلفوا عن الآخرين بعيداً عن نمطية التشابه في الأكل والشراب والملبس مع من سبقونا من دون استفزاز المجتمع الذي يعيشون فيه، ومن هنا لا بد من الالتزام بالعادات والتقاليد، وهنا تضمن تربية سوية سليمة مع ترك الحرية في الاختيار والتجربة، وقد حثنا الإسلام على التربية كمنهج متكامل وفقاً للزمان والمكان بما يكفل التوازن بين الثوابت والمتغيرات فهي عادات صلبة ومرنة في الوقت ذاته وتتماشى مع التغيير دون المساس بها ولكنها تتماشى مع العصر؛ لأن التربية الإسلامية فكر وعمل بمعنى: (أرني دينك في فكرك وسلوكك) فالفكر السوي هو منهج مهما دار الزمان أو تبدل المكان واستقرار الأسرة من الأمور المهمة في فكرة زرع العادات والتقاليد والقيم الحميدة لدي الطفل ولذلك لا بد من تجنب الخلافات العائلية أمام الأطفال وتجنب العادات السيئة لإعداد الأطفال للدخول في معترك الحياة بشكل سليم وبنية فكرية قوية تحت مظلة مجتمع له عاداته وتقاليده الحميدة ويجب أن نذكر أفلاطون الذي حاول إيجاد حل لمشكلة النزاع بين مصلحة الفرد والمجتمع وهي نظرية التربية المثالية فلا بد من تعليم أولادنا أن التربية المثالية السوية تؤمن بعقل الإنسان وتمسكه بالحقائق والمعارف، ولا نغفل أننا كمجتمع نربي أبناءنا في مجتمع منفتح للوقوف على الحسن والسيئ منه حتى يتمكنوا من التفريق بينهما فيما بعد فكثير من علماء النفس والاجتماع قالوا إن أهم ما في موضوع التربية هو الاستقرار العائلي والحب والود بين الزوجين وفتح الحوار واحترام الآراء مهما كان اختلافها لأنها تجعل الفكرة راسخة في الذهن وإبعاد الأطفال عن أي شجار عائلي لأن ذلك يجعل منهم كائنات هشة ضعيفة لا يقبلون أي شيء من الوالدين اللذين يمثلان لهم مصدر الأمان وهما بتلك المشاكل نزعوا منهم هذا المصدر الذي يجعلهم يبتعدون عنهما للبحث عن المعرفة من وسائل التكنولوجيا التي قد تؤثر سلبا إذا ما تركناهم فريسة لها بشكل مستمر. وتختصر خبيرة التنمية البشرية ليلي بنت أحمد رؤيتها للمشكلة بأن المهم تعويد الأطفال على السلوك السليم وإبعادهم عن الرديء بالإقناع ولكل شيخ طريقة فما يتقبله هذا ليس شرطاً أن يتقبله الآخر. آراء المجرِّبين أحمد حمدي «مدرس»يقول: لا شك أن تعويد الطفل على العادات الحميدة والتقاليد الأصيلة التي تربي عليها الوالدان أمر ضروري. والدمج بين عدة أساليب وارد لأن ما تربى عليها الكبار قد نُقش في عقولهم مثل النقش على الحجر ولكن لا بد من اجتناب العادات الرديئة واستخدام أساليب علمية حديثة في التربية لتنشئ جيلاً سليماً. بينما ترى السيدة ريم المحمدي أن المسألة ليست هينة فنحن أول من يتأثر بالتربية لأن ما نبني عليه أولادنا نجنيه في الكبر؛ وعليه فالدمج بين الماضي بعراقته والحاضر بحداثته ضروري والتربية باتت صعبة جداً في زمن التكنولوجيا «لنا الله». غرس القيم النبيلة ويذهب المحامي محمد علي إلى أن لكل جيل طريقة في التربية تواكب زمانهم والبعد عنها غير صحي ويضيف: أنا مع غرس القيم النبيلة التي من شأنها السمو بالأخلاق وأعطي نصيحة خاصة للوالدين: لا تجعلوا أبناءكم نسخة منكم، بل اجعلوا منهم شخصيات متفردة حتى يستطيعوا الاعتماد على أنفسهم في حياة باتت ملأى بالمصاعب.

مشاركة :