الذكاء العاطفي.. ما هو؟ وكيف نفهمه؟

  • 7/22/2018
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

يروى أنه كان هناك ذات يوم مصنع يعمل بنظام الورديات، إذ توجد به ورديتا عمل (صباحية ومسائية). يدير الوردية الأولى شاب ذكي ومؤهل (محمد)، أما الوردية الثانية فيديرها موظف تجاوز الخمسين عامًا، قضى عمره في المصنع، فأصبح ذا خبرة كبيرة في الآلات وطريقة عملها (أبو عليّ). ذات يوم خطرت ببال الموظف الشاب (محمد) فكرة جديدة لتطوير عمل الآلات وزيادة إنتاجيتها، لكن تنفيذها ينطوي على بعض المخاطر على سلامة الآلات، فعرض الفكرة على المدير وناقشه بها، فوافق المدير عليها. أسرع محمد الى تنفيذ الفكرة، وبالفعل زادت سرعة الإنتاج. وعند اقتراب موعد انتهاء ورديته، اضطر محمد إلى الخروج مبكرًا من العمل، لارتباطه بموعد مسبق، فكتب التعديلات التي أحدثها في ورقة ووضعها على طاولة الموظف صاحب الخبرة الذي يدير الوردية الثانية (أبو عليّ)، إذ لم يستطع انتظاره حتى يحضر، وانصرف. وعندما حضر الموظف الآخر إلى المصنع، فوجئ بطريقة عمل الآلات، ففزع من التغييرات، وخشي على الآلات، فأغلقها في الحال، من دون أن ينتبه للورقة التي على مكتبه، مما أدى إلى خسارة كبيرة بسبب توقف الإنتاج. في اليوم الثاني علم المدير بما حدث، فطلب (محمد) للاجتماع به، فدخل محمد مكتب المدير وكله ثقة واستعداد نفسي وذهني للدفاع عن نفسه وإلقاء التهمة على زميله، رحب به المدير وأجلسه، وبعد الترحيب وكلمات المجاملة، قال المدير: أنت من الموظفين الذين يفخر المصنع بوجودهم فيه، وكفاءتك في العمل ممتازة وحماسك رائع، وهذا كله أثر في تطوير سير العمل في المصنع، وخصوصًا فكرة تعديل تشغيل الأجهزة المضاعفة للإنتاج التي طرحتها أمس. أثر هذا الكلام الإيجابي على نفسية محمد، فهدأت نفسيته وتركيزه في الدفاع عن نفسه، وتحول حماسه إلى توضيح أفكاره بخصوص تطوير العمل، فقال: نعم، هذه الفكرة ستضاعف الإنتاج 60% وسنغطي الأسواق. وبدأ الشاب يسترسل في الكلام ويشرح فكرته والكيفية المناسبة لتنفيذها، وبعد أن انتهى محمد من شرحه فاتحه المدير فيما حدث بالأمس قائلاً: أنت على علم بالطبع بما حدث أمس من إيقاف للمصنع، وهذا أدى إلى بضع خسائر في الإنتاج، ولكننا إن شاء الله سنعوضها بفكرتك، ولكني أود أن أستمع لرأيك في سبب حدوث هذه المشكلة. محمد: أعتقد أننا كنا نعلم أن الفكرة جيدة، ولكن أعتقد أننا يجب أن نخطط لطريقة تنفيذها أكثر، فعندما قمنا بتنفيذها اضطرتني الظروف الى مغادرة المصنع قبل حضور مسؤول الوردية الثانية (أبو عليّ) وذلك بسبب موعد مسبق، فما كان مني إلا أن كتبت ورقة توضح الموضوع ووضعتها على طاولته، ولكنه للأسف لم يرها، بل رأى الآلات تعمل بشكل مغاير لما تعوده فذهل، وأعتقد أن خللاً ما ألمّ بها، فأطفأها. المدير: إذن المشكلة ليست بسبب الفكرة، وإنما بسبب آخر، ما هو برأيك؟ محمد: أعتقد في طريقة التعامل بيننا كموظفين، كان عليّ أن أتأكد من أن الورقة ستصل إلى الموظف الآخر، فالأمر ليس بسيطًا، وفي نفس الوقت كان على الموظف المسؤول أن يستشيرك أو يتصل بي قبل إطفاء الأجهزة. المدير: إذن ماذا تقترح لحلّ مثل هذه المشكلة؟ محمد: من وجهة نظري أجد أنه من الأفضل أن نحسن وسائل الاتصال والحوار بيننا كموظفين حتى يسهل علينا التشاور في شؤون المصنع، وعلينا كذلك اتباع نظام محدد في تطبيق الأفكار وذلك بإخبار الجميع عنها. انتهى اللقاء والحوار بين محمد والمدير، وبعدها بساعات طلب المدير (أبو عليّ) الموظف المسؤول عن الوردية الثانية، فدخل الموظف على المدير متوترًا يفكر في كيفية تبرئة نفسه. المدير: أهلاً عم أبو عليّ، تفضل بالجلوس، كيف حالك؟ هل أطلب لك شيئًا تشربه؟ أبو عليّ: لا شكرًا. المدير: «لا يمكن، يجب أن تشرب شيئًا». وعندها طلب المدير فنجانا من القهوة العربية للعمّ أبو عليّ ليشرب، وبعد أن سأله عن طعم القهوة وخبرته في طبخها وما إلى ذلك، قال المدير: عم أبو عليّ، أنت من الموظفين الذين قضوا عمرًا طويلاً في المصنع، وأنت أحد الذين بنوه فتعرف كل صغيرة وكبيرة به، وربما تكون أكثر مني معرفة بآلاته وطريقه عملها، ولولا الله ثم خبرتك ما كنا وصلنا إلى هذا المستوى الحالي من الإنتاج. يبتسم أبو عليّ لهذا الإطراء، فيقول: هذا واجبي، والمصنع جزء من حياتي، ونجاحه هو نجاحي. المدير: حسنٌ عم ابو عليّ، من خبرتك ومعرفتك، لماذا حدثت المشكلة أمس في المصنع؟ هل بإمكانك أن توضح الأمر لي؟ بهت أبو عليّ أن يسأله المدير هذا السؤال بدلاً من إلقاء اللوم عليه، فقال: الأسباب كثيرة، أولها: أني لم أكن أعلم عن الفكرة مسبقًا، ولم أعلم بالورقة التي تركها لي محمد إلا اليوم، فلقد انشغلت أمس بالعمل وخاصة عندما رأيت الآلات تعمل بطريقة مغايرة أثناء جولتي التفقدية، فظننت أن خللاً ما قد أصابها، فأطفأتها حتى لا تزيد المشكلة. المدير: إذن ما الحلول التي تطرحها حتى نتفادى حدوث مثل هذه المشكلة في المستقبل؟ أبو عليّ: علينا أن نتبع نظامًا واضحًا عند إجراء أي تغييرات، أي إن أي تغيير يُعتمد يجب أن نعلم به قبل تنفيذه أو أثناء التنفيذ، كما يجب علينا أن نوثق روابط الحوار والتواصل بيني وبين محمد، وأن تكون وسيلة الاتصال بيننا للتشاور في أمور المصنع أكثر سهولة ويسرا. شكر المدير أبو عليّ ووعده بأخذ أفكاره والاستفادة منها. هذه القصة تروى في كتب التنمية البشرية على سبيل الاستدلال على عدة موضوعات، منها الاتصال والتواصل وعلاقة المدير بالموظفين وعلاقة الموظفين بعضهم ببعض أو التنظيم الداخلي في المؤسسات وما إلى ذلك، ولكن وجدنا أن للقصة جانبا آخر ربما لم يكن واضحًا للعيان وهو ما يتعلق بالمدير وكيفية تصرفه في مثل هذا الموقف، فيا ترى ماذا فعل المدير؟ وكيف تصرف؟ ولماذا تصرف بهذه الكيفية؟ من الواضح أن المدير يتميز بكونه يمتلك قدرات فيما يعرف بالذكاء العاطفي، فما هذه النوعية من الذكاء؟ وكيف تعمل؟ ولماذا نحتاج إليها في الإدارة وفي حياتنا الخاصة والعامة؟ والسؤال الأهم أو الذهبي كما يقال هو: هل يمكن وضع رابط ما بين العاطفة والذكاء؟ فالعاطفة -كما هو معروف- تتضمن الانفعالات والنواحي المزاجية والتقويم وبقية المشاعر الأخرى مثل الفرح والسرور والغضب والإحباط والخوف والقلق وجميع صور الانفعالات مهما كانت صغيرة أو كبيرة، فإن كانت هذه هي العاطفة، فما علاقتها بالذكاء؟ من الطبيعي أن هناك العشرات من التعريفات الأكاديمية المتعلقة بالذكاء العاطفي، إذ إنه فرع من فروع العلوم الإنسانية لذلك فإنه كمصطلح يُعرّف بحسب اهتمامات العلماء وتخصصاتهم، ولكن سنحاول أن نقول إن الذكاء العاطفي هو «القدرة على فهم وإدراك كل ما يتعلق بمفهوم العاطفة وتحفيز وإدارة الذات ليس للفرد فحسب وإنما لكل من يعيش حول المرء، سواء كان شريك الحياة، أو الأبناء، أو الموظفين أو أيًا كان». وبمعنى أكثر بساطة أن أتعرّف أنا على مشاعري وعواطفي لتخدمني في علاقاتي الشخصية مع نفسي ومع الآخرين. ولكن كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ يشير أحد علماء التنمية البشرية إلى أن «الذكاء العاطفي هو الحلقة المفقودة في مكان العمل، أو الغراء -إن فضلت وصفه بذلك- الذي يلصق عناصر النجاح ببعضها. والمؤسسات الناجحة توظف أشخاصًا ناجحين. والذكاء العاطفي يقلل من قدر الدورات التدريبية التي يحتاج إليها الموظفون لزيادة الأرباح، فقد أثبتت الأبحاث أن أصحاب المستويات المرتفعة من الذكاء العاطفي يتسمون بأداء أفضل من نظرائهم من أصحاب الذكاء العاطفي المتدني، ولعل أحد أسباب ذلك أن الذكاء العاطفي يعني الفاعلية على المستوى الشخصي ومستوى الفريق». ويستطرد فيقول: «مما لا شك فيه أن المشاعر السلبية تؤثر على سلوكياتنا بطرق سلبية. لذلك فإن معرفة كيفية التعامل معها -ونسيانها- هي أمر غاية في الأهمية. لذلك فإن الخطوة الأولى لتأسيس علاقة جيدة مع نفسك هي تفحص برامج تشغيل عقلك الباطن وتغييرها عند الضرورة. والخطوة الثانية هي فهم أهمية حب نفسك. وهذا لا يعنى بالطبع النظر إلى المرآة والإعجاب بشكلك، وإنما نعني بهذا قبول الذات. وإلى أن تتقبل ذاتك، ستظل دومًا تعاني صراعًا، فهل تهتم بمصلحة أعدائك؟». وقد يجد الكثيرون أن هناك مفارقة ما بين الذكاء التقليدي والذكاء العاطفي، وهنا يمكن أن نذكر قصة عن مسؤول عُرف عنه الذكاء العقلي العالي والإخلاص في العمل، لكن كانت توجيهاته للآخرين قاسية لا ترحم، مما أدى إلى أن معظم الموظفين أبدوا عدم رغبتهم في التعاون والتعامل معه، وهذا أثر بشكل مباشر على مستوى إنجازه وتحقيقه الأهداف المرجوة منه، وهذا هو الذكاء التقليدي. ولكن ماذا كان من الممكن أن يحدث لو أن هذا الشخص أضاف إلى ذكائه وإخلاصه شيئًا من الإنسانية وبعض المشاعر والقدرة على تقبل أخطاء الموظفين وتوجيههم بأسلوب لبق غير ناقد أو باحث عن الأخطاء؟ هل كان من الممكن أن تتضاعف قدراتهم وإنجازاتهم المهنية؟ نتصور أنه كان بإمكان هذا المسؤول أن ينجز أهدافًا أكثر بوقت وجهد وموظفين أقل. لذلك فنحن من الأشخاص الذين يعتقدون أنه يمكن إيجاد ربط أو جسور ما بين الذكاء العقلي والذكاء العاطفي، فالاعتماد فقط على العقل وحده يمكن أن يوصلنا إلى أماكن واضحة ومحددة، أما الذكاء العاطفي فإنه يفتح أمامنا أبوابا لا تحد ولا تحصى من التميز والتألق حيث ان العلاقة بينهما وثيقة وأساسية. من ناحية أخرى فإن مفهوم الذكاء العاطفي يُعد من المفاهيم الحديثة التي دخلت مجالي السلوك التنظيمي وإدارة الموارد البشرية، فقد كان التركيز في القرن العشرين ينصب على الذكاء التقليدي أو الذكاء العقلي بوصفه أحد محددات مستوى أداء العاملين في المؤسسات، إلا أن الدراسات الحديثة أشارت إلى أن الذكاء العاطفي أكثر أهمية في تحديد مستوى الأداء، ولعل من أبرز ما يعزز أهمية الذكاء العاطفي ما ذكره ستيفن كوفي صاحب كتاب العادات السبع حيث يقول: «لقد أظهرت الدراسات بالبرهان القاطع أن الذكاء العاطفي أكثر أهمية من الذكاء العام أو المعرفي في معظم الأدوار، وهو أكثر أهمية في أدوار القيادة». ومازال للحديث بقية.

مشاركة :