التباكي الجماعي، حول الأزمة الإنسانية التي يعاني منها قطاع غزة، يعكس في حقيقة الأمر، طبيعة ومستوى تقدم المخططات الأمريكية الإسرائيلية التوسعية ونحو مصادرة الحقوق الوطنية التي أقرتها الشرعية الدولية وتمس جوهر ما يعرف بالمشروع الوطني الفلسطيني. من حيث المبدأ ثمة مناطق أخرى في العالم تعاني من أزمات إنسانية، وصراعات، تستدعي تدخلات دولية عاجلة، وربما بعضها يتقدم على غزة من حيث مدى وطبيعة وآثار تلك الأزمات فلماذا غزة الآن؟ ومن حيث المبدأ فإن قطاع غزة يعاني منذ أكثر من عشر سنوات آثار حصار إسرائيلي مشدد وظالم، وآثار كارثية للعدوانات التي شنتها إسرائيل في الأعوام 2008-2012 و2014 فلماذا لم يتدخل المجتمع الدولي على النحو الذي يحصل هذه الأيام؟ تبدو غزة هذه الأيام وكأنها الشغل الشاغل للإدارتين الإسرائيلية والأمريكية، بالرغم مما يقال عن أولويات التهديد من الشمال، والتهديد الإيراني. بعد الحملات الكاذبة التي جردتها وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية بشأن الأزمة الإنسانية التي يعاني منها مليونا فلسطيني في غزة، يتزامن معها تحركات سياسية وعروض بدعوى إنقاذ غزة حتى لا تنفجر في وجه إسرائيل، بعد كل ذلك أخذت تتضح أكثر الأهداف السياسية من وراء تلك الحملات الكاذبة. غزة اليوم هي الاستحقاق العاجل لصفقة القرن التي بدأت بالقدس واللاجئين، وحان دورها كحلقة ثالثة، قبل الانتقال إلى الحلقة الرابعة وهي الضفة الغربية. آخر ما ورد من مؤشرات أمريكية العروض التي يقدمها كل من جاريد كوشنير وجيسون غرينبلات، وتطلب من حماس الاعتراف بإسرائيل والتخلي عن المقاومة، مقابل تحويل غزة إلى منتجع سياحي فاخر. يغرد هؤلاء عبر تويتر، بأن الأموال جاهزة والأدوات جاهزة والإرادة كذلك، والتنفيذ فوري بمجرد أن توافق حماس على هذه الشروط. الأمر إذا لا يتصل بإنقاذ غزة من الازمة الإنسانية، وإنما يتجاوز ذلك إلى تحويل غزة إلى منتجع، غير أن الهدف الحقيقي هو تحويل غزة إلى مقر للكيان الفلسطيني لاحقا. في الواقع فإن أهل غزة يستحقون الاستشفاء، وغزة يمكن فعلا أن تتحول إلى منتجع سياحي ولكن ليس على حساب الحقوق الوطنية والكرامة الوطنية التي دفع الفلسطينيون دماء غزيرة من أجلها. من الواضح أن إسرائيل تستعجل فرض هذا الحل على الفلسطينيين فقيادتها اليمينية المتطرفة تكاد لا تصدق أن ظروفا مواتية لها كالتي تمر بها المنطقة، بوجود إدارة أمريكية من هذا النمط الاستثنائي تتبنى بالكامل المخططات الإسرائيلية وتتنطح لتنفيذها بحماسة شديدة. دفعة واحدة تفكر القيادة اليمينية المتطرفة في إسرائيل تنفيذ كل مخططاتها التوسعية، فهي تسعى لتسريع تأهيل غزة بمعزل عن الضفة، ولبسط سيادتها على الجولان السوري، وبعد فصل غزة، التوجه نحو مصادره الجزء الأكبر من الضفة، فضلا عن إقرار هوية الدولة عبر قانون أساس قانون القومية. خطة تأهيل غزة جاهزة فعلا، وقد أعلن عنها المبعوث الأممي ملادينوف، وأعلن عن جمع ستمائة وخمسين مليون دولار يمكن أن تصل إلى مليار دولار، والأدوات جاهزة أيضا عبر مؤسسات الأمم المتحدة وبعض المؤسسات الدولية، ولكن الكل يتمنى أن تكون السلطة الفلسطينية هي الشريك في غزة، في ضوء استبعاد موافقة حماس على الشروط الأمريكية. هذا ما يفسر الحراك السياسي والعملياتي على مختلف الجبهات والجهات ذات الصلة، وهو أيضا ما يفسر الضغط المحسوب. سيتواصل وستتدخل مصر وأطراف أخرى لإخماد النيران كلما بدت وكأنها تتجه نحو التصاعد، بهدف تعجيل التوصل لتفاهمات حول ملفات غزة، التي تتوسط فيما أطراف عربية دولية بين إسرائيل وحماس، فضلا عن أن إسرائيل تحاول أن تحصل على أفضل شروط ممكنة. من الواضح أن لا أحد له مصلحة في تدهور الأمور بين إسرائيل وحركات المقاومة إلى حد الذهاب إلى عدوان واسع ضد القطاع، لا تحتاجه إسرائيل طالما أنها تشعر بأنها قادرة على تحقيق أهدافها بدون مثل هذا العدوان، ولا تحتاجه حماس أيضا وسكان قطاع غزة. مرة أخرة السباق محتدم بين الخيار الفلسطيني الذي يتطلب تحقيق المصالحة، وبين الخيار الأمريكي الإسرائيلي نحو تحديد مكانة غزة الموعودة بمرحلة جديدة من الانفراجات في كل الأحوال فهي إما أن يفرض عليها الاندراج في سياق صفقة القرن وإما أن تندرج في سياق وطني لتعزيز قدرة الفلسطينيين على مجابهة صفقة القرن.
مشاركة :