هذا الرقم 18 يحمل مكان ولادة جمال عبدالناصر في شارع أنواتي حي باكوس بالاسكندرية، كان ذلك بتاريخ 15 يناير 1918, بعد 3 شهور فقد عبدالناصر شقيقه عبدالباسط، وحزن عليه حزنًا شديدًا، ولم يدري والده (عبدالناصر) أن الله سبحانه وتعالى لم يعطه وحده هذا الطفل وإنما أعطاه لمصر كلها، وللعروبة كلها، ليكون بعد 35 عامًا منقذها ومحررها والداعي إلى سلام العالم كله، ثم رزق والده باثنين آخرين هما عز العرب والليثي، ثم توالت الأحداث السياسية في مصر فكان 11 نوفمبر 1918, هو يوم إعلان الهدنة في نهاية الحرب العالمية الأولى، كان 3 من القادة هم: سعد زغلول وعلي شعراوي وعبدالعزيز فهمي قرّروا تشكيل وفد شعبي للتفاوض مع الحماية البريطانية في مصر الهدف منه طلب الاستقلال للذهاب إلى بريطانيا يحدوهم في ذلك تعهد بريطانيا إنجاز الوعد باستقلال مصر. الأمر الذي عجل بانفجار ثورة (1919) والتي كانت أول انتفاضة جماهيرية ضد الحكم البريطاني في مصر منذ أن استولى الإنجليز على الحكم عام 1882, ونفي سعد وأبرز انصاره إلى مالطه، كما شهدت هذه الفترة أيضًا صدور تصريح 28 فبراير 1922, إذ أعلنت بريطانيا من جانب واحد انتهاء الحماية البريطانية على مصر وأن مصر أصبحت دولة مستقلة رسميًا باستثناء أربعة مجالات تتولاها بريطانيا هي العلاقات الخارجية والاتصالات والجيش والسودان ثم أعلنت دستور 1923, وما بين عامي 1925-1930 أحس والده عبدالناصر بأن ابنه جمال يواجه عدم استقرار، وكان والده يعمل في البريد، ولكن بعد نقله إلى مكتب بريد الخطاطية أدخل ابنه جمال (مدرسة الخطاطية) ثم انتقل بين عامي 1925-1926 إلى مدرسة النحاسين الابتدائية ولم يكن قد بلغ الثامنة من عمره وفي صيف 1928 أتم جمال عبدالناصر دراسته في السنة الثالثة الابتدائية بمدرسة النحاسين ثم نقل والده مرة أخرى الى الاسكندرية فأرسله عند جده لوالدته (محمد حماد) وأتم دراسته في مدرسة العطارين، إن حياة عبدالناصر حافلة بعدة أمور الدراسية والنضال وتخليص مصر من براثن الاستعمار البريطاني. كان عبدالناصر قد تلقى الثورة مع العلم وفي إحدى الحصص الدراسية دخل الأستاذ أحمد حسين القرني مدرس اللغة العربية، فصل السنة الرابعة بالقسم الأدبي بمدرسة النهضة، رأى جماعة من الطلبة ملتمة حول جمال وكان يتحدث معهم في الشؤون السياسية، ويرسم لهم سياسة الاستعمار والقصر وزعماء الأحزاب، وقف المدرس برهة يستمع إلى الطالب دون أن يفطن إليه هو أو زملاؤه، حتى انتهى جمال من حديثه مع الطلبة، اقترب منهم المدرس فانتبهوا إليه وانصرف كل إلى مقعده، بينما قال المدرس لجمال: (اسمع يا إبني أنني أخشى عليك هذه الحدة الوطنية، ونصيحتي إليك أن تخفي شعورك الوطني بقدر ما استطعت لأنك أمام حكومات لا تقيم لمستقبل أي طالب وزنًا)، ووقف جمال وقال بصوت قوي مهذب: (كل نصح أرحب به إلا أكف عن مثل هذا)، ومضى الأستاذ يفكر في هذا الطالب وإلى أين يريد أن يصل، وكم شاهده في حديقة المدرسة فهو يتحدث مع الطلبة عن الحرية والاستقلال وتهاون الزعماء في حقوق الوطن، ولم يكن هذا المدرس وحده الذي رأى هذا الطالب بل ان ناظر المدرسة كثيرًا ما يلفت نظره إلى الامتناع عن عقد تلك الحلقات السياسية مع الطلبة ولم يكتفي جمال بهذا بل وصل به الأمر حبًا للوطن الى أن يدعو زملاءه الطلبة إلى بيته في حارة خميس المدس ويشرح لهم حقيقة الأوضاع القائمة وراء كواليس السياسة المصرية أو يجتمع بهم في الحدائق العامة، أو في مسجد سيدي الشعراوي، في عام 1936 نجح جمال في البكالوريا – أدبي بتفوق في مدرسة النهضة الثانوية – وكان ذلك في يوليو من العام المذكور، قرر بينه وبين نفسه أن يستكمل دراسته العالية في الكلية الحربية، فقد كان يحلم بأن يكون ضابطًا يصنع الحرية لشعبه، واسترداد الكرامة. كان صغير السن، رياضي التكوين، إلا أنه واجه تآمرا في تعيينه لأن لحظة فحص المظهر والمقابلة رأت فيه غير صالح، فقد أعد مركز شرطة الجمالية بالفعل تقريرًا عن نشاطه السياسي وأنه عضو في حزب أحمد حسين وهو من ينظم المظاهرات الطلابية أيام دراسته الثانوية وهو بذلك غير منضبط، إلا أنه كان مصمما على دخوله الكلية العسكرية وقد تم له ما أراد وكان ذلك في 17 مارس 1937 مع مجموعة من الطلبة المستجدين وكان عددهم 43 طالبًا، وهذه حكاية قد لا يعرفها الكثيرون عن هذا الضابط الشجاع (جمال عبدالناصر)، في صباح 24 أكتوبر 1948 في جيب الفالوجة وفترة سكون المدافع وزئير الطائرات جاء إلى الضابط جمال عبدالناصر أحد الجنود يخبره بأن هناك مدرعة ترفع راية بيضاء يصدر منها صوت يعلن رغبة ضابط إسرائيلي في مقابلة ضابط مصري، ركب جمال عبدالناصر سيارته وذهب إلى الموقع ومعه اثنان من زملائه الضباط وجندي يحمل مدفعًا رشاشًا، وانطلقوا بالسيارة إلى المنطقة الحرام بينهم وبين العدو، وقفت السيارة في محاذاة مدرعة العدو التي أطل منها راكبوها وفي عيونهم دهشة، ثم استجمع أحدهم كبرياء وشهر رأسه في عنجهية وقال بالإنجليزي أنا المساعد الشخصي للقائد العام لهذا القطاع وأنا مكلّف بأن أشرح لكم موقفكم من كل ناحية ونحن نطالب باستسلامكم، فردّ عليه عبدالناصر في هدوء، أما الموقف فنحن نعرفه جيدًا ولكن الاستسلام لن يحدث نحن ندافع عن شرف جيشنا، وبدأ اليهودي التحدث بالعبرية وأحد مرافقيه يترجم ثم عاد يتكلم بالإنجليزية ثم تنازل عن كبريائه وبدأ يتكلم بالعربية وهو يشرح لهم، فقاطعه عبدالناصر أنك تحاول عبثًا ونحن نرفض الاستسلام، وحملق فيه الضابط (كوهين) وردَّ عليه مستنكرًا ألا ترجع إلى قائدك تسأله، فردّ جمال هذا موضوع ليس فيه مجال لسؤاله، بعدها ساد الصمت قليلاً وهم ينظرون إلى بعضهم فبدأ قناع الكبرياء يسقط عن وجه (كوهين) وطلب من جمال في صوت خافت قائلاً: لنا طلب إنساني وهو أن تسحب جثث قتلانا عندكم في المعركة السابقة، فأجاب عبدالناصر طلبه في ثقة كاملة: نحن نوافق لكم على هذا الطلب الإنساني، وكان هذا هو اللقاء الأول بين جمال عبدالناصر واليهود، هكذا كان عبدالناصر حاسمًا قويًا لا يهاب الموت لأنه يدافع عن وطن وجيش وفلسطين. وهكذا يبقى ظلك أخضر، ومائة عام مضت منذ كان صرخة طفل رضيع حتى مرحلة صباه وقدومه إلى الدنيا بل إلى الوطن العربي كله، ولم يتوقف عن صوته الهادر في وجه القهر والهيمنة والتسلط ولكن قد اختاره ليكون لسان حال الملايين من أبناء الأمة العربية، ولم يتخلّ يومًا عن مبادئه وقوميته العربية، فبقى في قلوب المبدعين، الرجل ذو القلب الكبير إنه جمال عبدالناصر طيّب الله ثراه.
مشاركة :