لندن – دفع واقع التغير المناخي الذي يشهده العالم، صانعي السياسات إلى الاعتماد على تسعير الكربون كحل يتصدى لهذه الظاهرة البيئية الخطيرة. ويجبر تسعير الكربون الملوثين على الدفع عند إرسال ثاني أكسيد الكربون وغازات دفيئة أخرى إلى الجو. وعرفت مجموعة البنك الدولي تسعير الكربون، في تقرير سابق بكونه “يجمع ما يعرف بالتكاليف الخارجية لانبعاثات الكربون -وهي تكاليف يدفعها الجمهور العام بطرق أخرى، مثل تلف المحاصيل وتكاليف الرعاية الصحية جراء موجات الحرارة والجفاف أو تضرر الممتلكات من الفيضانات وارتفاع مستوى سطح البحر- وربطها بمصادرها من خلال تسعير الكربون”. ويشير البنك الدولي، الذي حفز الحكومات على مساندته، إلى أن “تسعير الكربون يساعد على إعادة تحميل عبء الضرر على المسؤولين عنه، والذين يمكنهم الحد منه، وبدلا من إملاء أسماء الجهات التي يجب أن تخفض انبعاثات الكربون ومكانهم وكيفية ذلك، فإن تسعير الكربون يعطي إشارة اقتصادية، ويقرر الملوثون بأنفسهم ما إذا كانوا سيحدون من الانبعاثات، أو يحدون من نطاق نشاطهم المسبب للتلوث أو التوقف عنه أو الاستمرار بالتسبب في التلوث ودفع الثمن”. واستنتج أن بهذه الطريقة، يتحقق الهدف البيئي الشامل بأكثر الطرق مرونة وأقلها تكلفة على المجتمع، في الوقت الذي يستمر فيه تسعير الكربون في تحفيز التكنولوجيا وابتكارات السوق على تحفيز محركات جديدة منخفضة الانبعاثات الكربونية للنمو الاقتصادي. ومن بين الدول التي أدرجت تسعير الكربون: كندا والصين وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي وقرابة اثنتي عشرة ولاية أميركية. وبشكل يشبه كثيرا الإجبار على دفع مقابل عن كل رطل من القمامة الملقاة في مصباتها، تجبر سلطات هاته الدول الملوثين على الدفع عن كل طن من الكربون يلقى في الفضاء، ومن ثم تشجع الملوثين على الالتزام بسلوك نظيف. ويعتقد الباحث جيفري بول أنه “من الناحية النظرية، يبدو فرض تسعيرة على الكربون حلا ناجعا، يحفز للانتقال إلى تكنولوجيات منخفضة الانبعاثات الكربونية ويترك السوق تتحكم في من سيولد أشدّ وقع بيئي”. وتهدف أسواق الكربون إلى الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (الغازات الدفيئة أو الكربون) بفعالية من خلال وضع حدود لها وتمكين تداول وحداتها وهي أدوات تمثل تخفيض الانبعاثات، مما يؤدي إلى خفض التكلفة الاقتصادية لخفض الانبعاثات. جيفري بول: عوّد تسعير الكربون المتدخلين الأقوياء في الاقتصاد على ضمان عملية التخلص من الكربون في قرارات الإنفاق لديهمجيفري بول: عوّد تسعير الكربون المتدخلين الأقوياء في الاقتصاد على ضمان عملية التخلص من الكربون في قرارات الإنفاق لديهم التسعير الكربوني تتبنى مؤسسات كبرى متعددة الأطراف التسعير الكربوني، من بينها صندوق النقد الدولي والأمم المتحدة والبنك العالمي، وغيرها كثير. وكانت كريستين لاغارد، المديرة العامة لصندوق النقد تحدثت نيابة عن الكثيرين عام 2017 عندما أوصت بمقاربة بسيطة للتعامل مع ثاني أكسيد الكربون قائلة “ضع السعر المناسب، وظف الضريبة بذكاء، افعل ذلك الآن”. لكن من الناحية العملية يرصد بول صعوبات فكرة تخفيض الانبعاثات الكربونية عند وضع سعر محدد لها الذي “لا يفعل الشيء الكثير لمعالجة التغير المناخي”. ورغم أن العديد من الحكومات تفرض تسعيرات على الكربون حتى في الوقت الذي يعطل فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب جهود مكافحة الاحتباس الحراري العالمي بعد انسحابه من اتفاق باريس للمناخ، إلا أن كمية أكبر من الكربون تنبعث في الهواء. ففي السنة الماضية، ارتفعت كمية الغازات الدفيئة المرتبطة بالطاقة في العالم إلى مستويات أعلى من أي وقت مضى بعد أن بقيت مستقرة لثلاث سنوات. وتوقعت وكالة الطاقة الدولية بأنه في غياب سياسات جديدة فعالة ستستمر انبعاثات الغازات الدفيئة المرتبطة بمواد الطاقة في الارتفاع إلى حدود 2040 على الأقل. وإذا برهنت الحكومات عن استعدادها لفرض أسعار كربون مرتفعة بما فيه الكفاية ولامست قطاعا واسعا كفاية من الاقتصاد، يمكن لهذه الأسعار أن تحدث فارقا بيئيا حقيقيا. لكن المخاوف السياسية منعت الحكومات من فعل ذلك، مما أدى إلى الالتزام بأسعار كربون منخفضة جدا ومطبقة بشكل ضيق جدا حتى تتمكن من تقليص الانبعاثات بشكل ملحوظ، حيث تميل الخطط الحالية الخاصة بفرض أسعار على الكربون إلى استهداف قطاعات معينة من الاقتصاد فقط، تاركة القطاعات الأخرى طليقة اليد لتلوّث البيئة. وحتى في هذه القطاعات التي يمكن لتسعير الكربون أن يكون له أثر كبير، لم تكن لصانعي السياسات شجاعة لفرض ثمن مرتفع بما فيه الكفاية، والنتيجة أننا إزاء وصفة سياسات سُوّقت على نطاق واسع بأنها الدواء الشافي لخطر أكسيد الكربون لكنها في الواقع بمثابة حل وهمي، فهي تمنح السياسيين وعامة الناس الشعور بأنهم يحاربون التغير المناخي حتى مع استمرار المشكلة في التفاقم. وفي الوقت الذي يبدو فيه تسعير الكربون حلا غير مجد، تتربص بالعالم مخاطر بيئية بسبب تغير المناخ إذ أنه من المتوقع أن تتخطى درجات الحرارة العالمية ما ينبه إليه العلماء على أنه عتبة خطيرة، أي بدرجتين مئويتين فوق المستويات المسجلة قبل الفترة الصناعية. لكن عتبة الدرجتين (وهو مفهوم أتى به عالم الاقتصاد وليام نوردهاوس في عام 1975) ليست إلا صيحة حشد سياسي أكثر من كونها خطرا بيئيا. وعند تجاوز تلك العتبة ستصبح عدة مشاكل أسوأ مما عليه، بما في ذلك أحداث طقس كارثية وفيضانات ساحلية، وفي المناطق المدارية والمعتدلة سيحصل نقص في المحاصيل الأساسية مثل القمح والأرز. لذا فإن العالم في حاجة إلى حلول تفعّل أكثر من مجرد قضم المشكلة إذ المطلوب هو تحركات أكثر استهدافا للمشاكل البيئية. سياسة بيئية صحيح هي تحركات صعبة من الناحية السياسية لكنها ممكنة وناجعة بيئيا، ومن بينها نذكر التخلص التدريجي من الفحم الحجري كوقود لإنتاج الكهرباء، ما عدا في الأماكن التي تستخدم فيها مع الفحم الحجري تكنولوجيا تلتقط الانبعاثات الكربونية، والحفاظ على منشآت الطاقة النووية في حالة تشغيل، وتقليص الدعم الحكومي للوقود الأحفوري، ورفع الضريبة على البنزين، وخفض تكلفة الطاقة المتجددة، وتشديد متطلبات النجاعة الطاقية. وبإمكان تسعير الكربون على الأقل بالتوازي مع هذه السياسات المباشرة والهادفة إلى خفض الانبعاثات الكربونية أن توجه الأموال نحو خيارات للطاقة النظيفة. لكن لا تكاد توجد أدلة على وجوب أن يكون تسعير الكربون الأداة الأساسية لدى المجتمع للمحافظة على اعتدال حرارة الأرض. وعلى الرغم من كل نواقصه، أنجز تسعير الكربون شيئين مهمين، حيث عوّد المتدخلين الأقوياء في الاقتصاد (من حكومات وشركات، وبدرجة أقل المستهلكين) على فكرة أنه يجب عليهم ضمان عملية التخلص من الكربون في قرارات الإنفاق لديهم. وفي الأثناء حثت هؤلاء الفاعلين على بذل المزيد من الجهود في اكتشاف كل من التكنولوجيات والنماذج التجارية التي بوسعها أن تخفض الانبعاثات الكربونية بطريقة أكثر فعالية من حيث التكلفة إلى درجة مفيدة بيئيا. بيد أن تسعير الكربون فشل في إنتاج تخفيضات مهمة في الانبعاثات، في حين أن الوقت أمام الحلول الترقيعية بدأ ينفد. ولأن علمية تسعير الكربون توهم المجتمع الدولي بأنها تتعامل بطريقة مسؤولة مع مشكلة التغير المناخي، فهو يقلص الضغط لأجل تبني إجراءات أخرى لخفض الانبعاثات الكربونية، وهي إجراءات من شأنها أن تضرب بعض القطاعات بقوة أكبر وتجلب تخفيضات أسرع. في غياب سياسات جديدة فعالة ستستمر انبعاثات الغازات الدفيئة المرتبطة بمواد الطاقة في الارتفاع إلى حدود عام 2040 على الأقلفي غياب سياسات جديدة فعالة ستستمر انبعاثات الغازات الدفيئة المرتبطة بمواد الطاقة في الارتفاع إلى حدود عام 2040 على الأقل تبعا لذلك فإن المعالجة الجدية للتغير المناخي في المستقبل القريب لا تتطلب استراتيجية فعالة نظريا بل استراتيجية فعالة واقعيا. ويجب الانتباه إلى أنه مع مرور كل عام يتراكم المزيد من الكربون في الجو، ومن ثم يصبح المزيد من الاحتباس الحراري لا مفر منه. ولذا فإن تقليص الانبعاثات في المدى القريب بات أمرا ملحا. وقد ارتفعت الانبعاثات الكربونية العالمية المرتبطة بالطاقة عام 2017 لأول مرة خلال أربع سنوات، وكان هذا الارتفاع الذي بلغ 1.4 بالمئة ناتجا عن زيادة في استخدام الفحم الحجري، وخاصة في آسيا، وإلى تباطؤ في إدخال تحسينات على النجاعة الطاقية على النطاق العالمي، وكان ذلك نتيجة للوقود الأحفوري الأرخص. وبما أن تسعير الكربون لوحده لا يحدّ من المخاطر البيئية، فما هو الشيء الآخر المطلوب؟ يجيب بول على هذا التساؤل مقترحا حلولا على صانعي السياسات تستوجب البدء بقطاع الكهرباء، وهو القطاع الأسهل في تنظيفه نظرا إلى توفر الغاز الطبيعي والموارد من الطاقة المتجددة التي تكتسب المزيد من النجاعة من حيث التكلفة تدريجيا. كما يجب التخلص التدريجي كلما أمكن من الفحم الحجري الذي يعتبر الوقود الأحفوري الأكثر إنتاجا للكربون ما لم يتم تكثيف استعمال تكنولوجيا للتقليص من الانبعاثات، وهي تكنولوجيا تعرف بعبارة “التقاط الكربون وتخزينه”، لكن دون أن نحسب حسابات خاطئة فالفحم الحجري سيبقى بكل تأكيد مصدرا هاما من مصادر الكهرباء لعقود قادمة وخاصة في العالم النامي. وإيجاد طريقة مجدية سياسيا واقتصاديا لالتقاط وتخزين الكربون الناتج عن استهلاك الوقود الأحفوري، وهو أمر حيوي ليس فقط بالنسبة إلى إنتاج الكهرباء بل وكذلك إلى العمليات الصناعية مثل إنتاج الإسمنت والصلب، فهذه الأنشطة ترسل كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون، وإلى حد الآن لا توجد طريقة مجدية لتزويدها بالطاقة ما عدا إحراق الوقود الأحفوري. وقد تعطلت الجهود من أجل تطوير تكنولوجيا التقاط الكربون وتخزينه جرّاء تعثر تسعير الكربون في ظل غياب دفع حكومي للتقليص من الانبعاثات الكربونية. ويقدر الخبراء بأنه ستكون هناك حاجة إلى سعر للكربون يتجاوز 100 دولار للطن الواحد، وربما أعلى بكثير، من أجل خلق حافز كاف للشركات حتى تستثمر في تكنولوجيا التقاط الكربون وتخزينه على نطاق أوسع. ونظرا لأن فرض سعر للكربون في ذلك المستوى العالي في وقت قريب يبدو حلما صعب التحقيق، سيكون على الحكومات توفير دعم مالي مباشر أكثر لهذه التكنولوجيا. الطاقة النووية لا يمكن للمجتمع الدولي التخلص من الطاقة النووية، وهي مصدر طاقة خال من الكربون يمكن التعويل عليه، صحيح أن المخاوف المرتبطة بالسلامة والانتشار في ما يخص الطاقة النووية هي مخاوف حقيقية، لكن بالإمكان التخفيف من حدتها عبر اعتماد مزيج بين التكنولوجيات النووية وقوانين أذكى. وعلى صانعي السياسات أن يجدوا طريقة لإطلاق إمكانات الطاقة المتجدد، إذ تبدو تكلفة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح متجهة نحو الانخفاض، وتبقى هذه المصادر جزءا يسيرا من التزويد الجملي بالطاقة. وللمزيد من تخفيض التكاليف، يتوجب على صانعي السياسات فرض سياسات حمائية مثل التعريفات الجمركية على المعدات المستوردة الخاصة بالطاقة المتجددة. ومقارنة بقطاع الكهرباء، فمن الصعب التخلص من الكربون بالنسبة إلى وسائل النقل. صحيح أنه من المرجح أن تنتشر السيارات الكهربائية مع تراجع تكلفتها، وإذا تم تزويدها بالكهرباء النظيفة يمكن أن تصبح أداة كبرى لمكافحة التغير المناخي، لكن البطاريات تبقى مرتفعة التكلفة إلى درجة كبيرة ومن المرجح أن يستغرق الأمر عقودا لاستبدال أسطول السيارات الموجود حاليا على الطرقات. وبالتالي فإن النفط، حسب أغلب التوقعات، سيستمر في تشغيل معظم وسائل النقل إلى منتصف القرن وربما بعد ذلك، الأمر الذي يستدعي تقليص التبذير في استهلاك النفط إلى أقصى حد. وإحدى الطرق المهمة لفعل ذلك هو الترفيع في سعر البنزين ووقود الديزل. ففي البلدان المتقدمة، وخاصة في الولايات المتحدة، يعني ذلك الترفيع في الأسعار في محطات الوقود عبر الضرائب. أما في البلدان النامية، يعني التراجع في الدعم الحكومي لوقود المحركات. لا ينكر الباحث جيفري بول أنه من الناحية السياسية تبدو عملية الترفيع التي ترفضها الطبقات المتوسطة والضعيفة، لكن الحكومات برهنت على أن ذلك ممكن. ويخلص بقوله “مع ذلك تبقى التحسينات في النجاعة عاملا مهما في التقليص من الانبعاثات الكربونية، وهنا تكون القوانين التي تجبر على اتباع نجاعة طاقية أكبر، وخاصة في المباني والسيارات، مجدية”.
مشاركة :