يوسف عبو الفنان المنسي نصب خيمة بدوية في برلين

  • 7/25/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لم يرو سعيد بعلبكي رواية عادية، بل سرد هذه المرة الحقيقة كما اكتشفها، عن فنان مغمور يدعى يوسف عبو (1888- 1953)، ظل ينقب طوال أربع سنوات عن تاريخ حياته المشتتة وأعماله الضائعة بين الإقامة والترحال في عدة بلدان بين الشرق والغرب، حتى تكوّن لديه أرشيف شكّل نواة المعرض الذي يقيمه في غاليري أجيال (شارع عبد العزيز- يستمر لغاية نهاية شهر يوليو) يتحدث فيه عن الآخر الذي أضحى موضوعه وعن المسار الذي قطعه وهو يجمع خيوط سيرته الغائبة. وثائق وصور تذكارية ورسوم ولوحات ومنحوتة واحدة هي جلّ ما تركه فنان استطاع ان يتبوأ مركزاً مرموقاً بين فناني الحداثة الكبار منذ مطلع القرن العشرين، وأن يجد لنفسه مكانة بارزة في المعارض التي أقيمت للفنانين التعبيريين على وجه الخصوص، قبل أن تنطفىء شعلته ويضيع أثره. هكذا سعى سعيد بعلبكي إلى إعادة إحياء تلك الذاكرة، كي يقدمها معيداً إليها الاعتبار، من دون أن يكون هذه المرة رساماً بالضرورة، بل مفكراً وباحثاً عن مخلفات الأثر وراوياً شاهداً على قصة لم يكتبها أحد من قبله. وهذا النوع من البناء القصصي- التوثيقي أو الإحياء المعاصر لذاكرة الراحلين، شغل فنانين طليعيين كثر من أمثال بولتنسكي، وما زالت قصص المفقودين خلال الحروب والمجازر تستأثر بالاهتمام العالمي، لذا يمكن اعتبار المعرض استثنائياً في هواجسه وتنقيباته ومدوّناته، وتبقى الحقيقة دوماً غريبة مثل قصة درامية ناقصة، ليس مقدراً لها أن تكتمل إلا من خلال تفاعل المشاهدين معها، كي يغدو التفاعل جزءاً من العمل الفني نفسه. يقول سعيد بعلبكي: «حين وقعتُ على أعمال يوسف عبو في آذار (مارس) من العام 2014، لم أكن لأعلم أن هذا اللقاء سوف يتحول سريعاً إلى شغف... جمعتُ كل أثر يساعد على إعادة صوغ هذا المصير المأسوي، حجراً إلى جانب حجر كقطعة فسيفساء عبث بها الزمن، لذا فإن مشروع يوسف عبو هو رد على كل محاولات تحويل مشهدنا الفني إلى مرويات خيالية، وهو قراءة أيضاً في معنى الهوية والانتماء الجغرافي لدى الفنان». يوسف عبو من مواليد صفد في فلسطين من عائلة مزارعين، عمل في تقصيب الحجارة في القدس قبل أن ينتقل إلى برلين ليقيم فيها طوال الحقبة الممتدة من العام 1911 إلى العام 1935. درس الرسم والنحت في أكاديمية الفنون وكان أول معرض شارك فيه يعود إلى العام 1917، وبعد انخراطه في موجة التعبيرية أصبح شخصية معروفة في الوسط الثقافي البرليني، لاسيما بعد أن قام برسم ونحت نصفيات العديد من شخصيات الطبقة الارستقراطية، بالإضافة إلى مشاهير ذلك الزمان من مؤرخي الفن والأدباء الشعراء فضلاً عن الموسيقيين والممثلين. لكن تبقى العلاقة الأبرز هي صداقته بالشاعرة إلزي لسكر- شولر التي بدأت على الأرجح في حدود العام 1919 وامتدت حتى العام 1927. فقد كتبت له قصيدة عام 1923 تحمل اسمه، جاء فيها: «يتحدث لغة شيوخ أهل البدو/ الذين تعلموا مخارج الأصوات من طيور الصحاري/ طفلاً كان يركب مع القبائل الخيول البرية» كما أنه صوّرها بعدة أعمال ومحفورات. قيل إنه كان فاتن نساء، ما سبب له عداوات في وسط زملائه الفنانين، كما كان الحال مع زميله كورت شفيترز (من زعماء الدادائية مع مارسيل دوشان)، الذي تعرف إليه على الأرجح خلال معرضه عند هربرت فون غارفن في هانوفر من العام 1921، والذي كرّمه عام 1922 بعمل من مجموعة Merz معنونة «الى يوسف عبو ميرز 454»، كما كتب شفيترز عام 1926، لمارسيل بروير في واحدة من «قصائده الساخرة» جملة مفادها «قد يصعب على جميع الرجال مساواة يوسف عبو»، إلا أن الشجار الذي دار بينهما حول امرأة وضع حداً لصداقتهما. في معرض سعيد بعلبكي رسوم يوسف عبو لوجوه مرّت في حياته ورسائل ووثائق وصور وكتيبات معارض تؤكد مشاركته في معرض «الفن المنحط» الذي نظمته النازية في ألمانيا بدواعي السخرية من الفن الحديث، وإذا به يلاقي إقبالاً جماهيرياً لافتاً، غير أن الأعمال التي شارك فيها عبو كانت في عداد تلك التي تم إحراقها، ذلك فضلاً عن معارض أخرى شارك فيها إلى جانب أوتو ميللر وبيكاسو وبول كلي وكاندنسكي وإيريش هيغل وكيرشنر وأوسكار كوكوشكا وسواهم. أما الحقبة اللندنية (1935- 1953) في حياة يوسف عبو، فظهرت أقل غنى، ومحوطة بالألغاز، من بينها كيفية انتقاله من برلين -هرباً من الحرب- إلى لندن بجواز سفر مصري حيث مكث فيها مع زوجته وأولاده الثلاثة حتى توفي فقيراً معدماً ومجهولاً. يبدو أن مصير يوسف عبو ارتبط بالترحال ولازمته صفته البدوية طوال حياته، فقد عاش في عشرينات القرن العشرين في خيمة بدوية داخل محترفه البرليني، أما في لندن فقد استخدم الصندوق الذي شحن فيه أعماله من برلين إلى بريطانيا في محترفه الكائن في حديقة المنزل العائلي، ولم يكن ذلك المحترف سوى عربة قطار. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية توقف يوسف عبو عن النحت وأتلف جزءاً كبيراً من أعماله اللندنية، وعاد إلى تجارة التحف ليكسب قوت يومه، وأصبحت متعته الوحيدة العناية بالحديقة. في آخر المطاف يتساءل سعيد بعلبكي عن الهويات والانتماءات المتعددة للفنان ليجزم بأن الانتماء الحقيقي للفنان يبقى لفنه ومحترفه.

مشاركة :