لستَ بحاجة إلى مخيّلة واسعة لتكتبَ يوميات "إشارة مرور" أو تنتجَ فيلماً يحمل العنوان نفسه، أو تستنبط التباينات بين مجتمع وآخر، استناداً على تصرفات الناس عند ضوء الإشارة الأحمر. لعلك بحاجة إلى قدرة على الالتقاط واستنباط الدلالات. فكثير من الناس يمرون بالأشياء مروراً عابراً لا يتيح لهم استخلاص المعنى. نعم. لا تلجأ إلى الخيال، فسوف يمدك الواقع الماثل أمام عينيك بمادة غزيرة للكتابة. ستجد أنه يتعذر افتراض "المطابقة" بين مجتمع الإشارة في مدينة مثل بومبي، وسنغافورة على سبيل المثال، أو مجتمع الإشارة في بلد خليجي وآخر أوروبي. سترى عند إشارة المرور في مدينة بومبي الشطار والمحتالين والمتسولين وبائعي الملابس والورود والحلي، ممن يجيدون "استثمار الضوء الأحمر". وهو ما عبر عنه الفيلم البوليودي Traffic Signal. أما أول ما يمكن أن تلاحظه عند إشارات المرور في شوارعنا البهية فهو أشكال وماركات السيارات، وهي في الغالب مؤشرات على تفاوت مستويات المعيشة. أضف إلى تلك المؤشرات أرقام اللوحات المميزة ذات الأسعار الخيالية. لكن أي انطباع متسرع اعتماداً على المظهر الخارجي قد يؤدي إلى استنتاج مضلل. الفخامة مظهر خادع أحياناً، وقد يصح على "صاحب السكبة" المثل القائل: "وجه مدهون على معدة خالية". هذا من الناحية المادية، ومن ناحية السلوك، فإن فخامة السيارة لا تعني، بالضرورة، فخامة أو أناقة السلوك. وربما كان الحال شبيها بما يقوله المثل الشعبي: "من برَّه رخام ومن جُوَّه سخام"! ولذلك ستجد من يربك حركة المرور بعدم انضباطه واحترامه للأنظمة، ومن يحول الشارع إلى سلة نفايات كبرى. يساعده على اقتراف تلك التجاوزت غياب الرقابة والعقوبة الخاصة بهذا المسلك. وسترى من يساهم في ارتفاع نسبة التلوث الضوضائي، ويمكنه أن يدخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية في استخدام بوق السيارة دون سبب موجب. إذا اجتزتَ بسيارتك القارة الأوروبية من الشمال إلى الجنوب فستجد أنه كلما أوغلت جنوبا ازداد ضجيج أبواق السيارات، وحين تصل بلدان الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، يصل التلوث الضوضائي في المدن الكبرى ذروته. سوف تلاحظ كذلك تصرفات بعض الشباب المتهور المستهتر. وستدرك أن مصطلح "الإشارة العائمة" لم يعد حكراً على نقاد الأدب، بعد أن أصبحت إشارة المرور عند بعضهم مجرد "إشارة عائمة" وفقاً للقاعدة الهزلية القائلة: "الضوء الأخضر يعني واصل سيرك، والأصفر ديكور، وأما الأحمر فهو مجرد اقتراح بالتوقف"! والاقتراحات، كما تعلمون، ليست ملزمة. ألا يحتاج بعضهم إلى علاج تربوي يشفيه من لوثة التهور والاستهتار، ويدربه على الانضباط، ويعلمه فن العيش، بدلا من حشو رأسه بأمور لا صلة لها بالحياة؟ هنالك أيضاً من يرى أن حزام الأمان من لزوم ما لا يلزم. ومن هو مشغول بالرد على رسالة هاتفية، أو بدردشة على الواتساب، وآخر يأبى إلا أن يفرض على بقية المنتظرين سماع أغنية غربية صاخبة. مع ذلك، لا تستبعد أن يكون ذلك "المتفرنج" على غير هدى راسباً في مادة اللغة الإنجليزية. وبعد: إذا كان الكتاب يُقرأ من عنوانه، فمجتمع إشارة المرور مؤشر يساعد على قراءة السلوك الاجتماعي العام، باعتباره نموذجاً مصغراً للمجتمع الكبير. تختلف تصرفات المنتظرين أمام الإشارة من مجتمع إلى آخر، لكنها، في مجملها، تعكس روح الجماعة، وتحدد المسافة الفاصلة بين التمدن والتخلف.
مشاركة :