تحاول الحكومة البريطانية منذ أشهر فعل ما يبدو مستحيلا في سياق مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، وسط تعقيدات تواجهها خطة رئيسة الوزراء تيريزا ماي على مستوى رفض الداخل لما يعتبرونه “بريكست ناقص” وعلى مستوى نقد الاتحاد الأوروبي لما تعتبره بروكسل “صفقة على حساب أوروبا”. وتسعى بريطانيا إلى التوصل إلى اتفاق شامل للتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي وتريد أن يتم توقيعه بعد قليل من مغادرتها للاتحاد في مارس 2019، على الرغم من الشكوك في مدى ما يمكن الاتفاق عليه بحلول ذلك الموعد. لندن - دخل ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) مسارات جديدة مع التصعيد المزدوج الذي تواجهه رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي، من جهة بروكسل التي ضاعفت من ضغوطها على لندن بشأن شروط الخروج، ومن جهة الحكومة البريطانية. ويذكر هذا الوضع بالفترة الأخيرة من حكم مارغريت تاتشر، وكيف دفع ارتفاع التذمر في صفوف المحافظين من تمسكها بمواقفها في مواجهة تصاعد الاحتجاجات الشعبية بسبب سياستها الاقتصادية القائمة على رفع الضرائب على المواطنين، إلى وضع نهاية لحكم المرأة الحديدية في أواخر سنة 1990. يكرر التاريخ نفسه، في كثير من الملامح، وإن اختلفت السياقات؛ فرئيسة الوزراء البريطانية الراهنة تيريزا ماي، التي خلفت ديفيد كامرون، إثر استقالته بعد فوز معسكر المؤدين للانفصال عن أوروبا، تعيش بدورها أزمة داخلية، مع أعضاء من حكومتها وداخل حزب المحافظين، بسبب خطتها للانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وعكست حدة هذه الخلافات استقالة وزير الخارجية بوريس جونسون (أحد أبرز مؤيدي البريكست)، وقبله الوزير المكلف بملفّ بريكست ديفيد ديفيس. ديفيد ديفيس: بريطانيا بخطتها المطروحة تسير نحو نصف بريكستديفيد ديفيس: بريطانيا بخطتها المطروحة تسير نحو نصف بريكست وبرر دافيد ديفس استقالته بأنها تأتي بناء على تصوره بأن المقاربة الجديدة المقترحة لا تفي بالوعود التي قطعتها حملة مغادرة الاتحاد الأوروبي التي ساهم في قيادتها. وكما سيطر التقلب على العلاقة بين مارغريت تاتشر والاتحاد الأوروبي، تعيش ماي سيناريو مشابه يبدو فيه الأوروبيون الطرف الأقوى، وهم يساومون الحكومة البريطانية على تكلفة البريكست وشروط العلاقة الجديدة التي ستقوم بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، بعد مارس 2019 تاريخ انسحاب بريطانيا رسميا من الاتحاد الأوروبي (يمكن تمديد المفاوضات الخاصة بالمادة 50، ولكن يتطلب ذلك موافقة الدول الـ27 الأخرى في الاتحاد الأوروبي). ومع اقتراب ذلك التاريخ، مازال من غير الواضح إلى أين سترسو سفينة هذه العلاقة. وفيما يتساءل الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية جوناثون هوبكنيز إن كان البريكست سيؤدي إلى إسقاط حكومة تيريزا ماي، يتساءل توماس راينس، محلل السياسات الأوروبية في المعهد الملكي البريطاني للسياسات الخارجية (تشاتام هاوس)، حول كيف يجب أن يكون البريكست ولماذا تعجز ماي عن اتخاذ القرار بخصوص الانسحاب. اختيار صعب يشير هوبكينز، في تحليل نشرته مجلة فوررين افيرز، بأن شلل المفاوضات بخصوص البريكست قد يفيد منافسي تيريزا ماي في الحزب والمعارضة، لكن ذلك قد يترك المملكة المتحدة أمام أزمة جمركية ورفوف المتاجر الكبيرة فارغة. ويذهب الباحث البريطاني إلى توقع استمرار حكومة ماي، وذلك لسببين رئيسين، أولهما أن ليس لخصوم رئيسة الوزراء “المصداقية” المطلوبة لتولي عملية الخروج، وصعوبة البدء من جديد في مسار المفاوضات مع بروكسل. والسبب الثاني داخلي بالأساس ويرتبط بالتنافس مع حزب العمّال. ويقول هوبكينز “يمكن أن يكون المستفيد الرئيسي من انهيار الحكومة هو حزب العمال برئاسة جيرمي كوربين”، مشيرا إلى أن خصوم ماي من المحافظين قد يجدون أنفسهم مجبرين على الاختيار بين الانسحاب “المخزي” من الاتحاد الأوروبي أو خطر التصويت الغاضب لأكثر الحكومات يسارية في التاريخ البريطاني. وترغب بريطانيا في أن يكون هناك منطقة تجارة حرة للبضائع والمنتجات الزراعية بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، إلا أنها لا ترغب في أن تتوافر هذه المنطقة للخدمات. Thumbnail وكما تلاقي خطة ماي اعتراضا في صفوف مؤيدي البريكست المتشددين في الداخل، تلاقي أيضا نقدا في بروكسل حيث يرى قادة الاتحاد الأوروبية أن رئيسة الوزراء البريطانية تريد تفصيل خطة خروج على مقاسها. وصدرت أحدث الانتقادات عن زير الخارجية الألماني هايكو ماس الذي أكّد أنه “لا يمكن للبريطانيين اختيار ما يروق لهم وترك ما لا يروق لهم”، مضيفا أنه لن يتم السماح بالضغط على الاتحاد الأوروبي في المفاوضات، وقال “لن نبرم أي صفقات على حساب أوروبا”. وجاءت تصريحات ماس ردا على تصريحات لوزير الخارجية البريطاني الجديد، جيريمي هانت، اعتبر فيها أن الاتحاد الأوروبي هو السبب في الطريق المسدود الذي تسير فيه المفاوضات. وأشار هانت إلى أن هناك حاليا “خطرا حقيقيا للغاية” في حدوث خروج لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون إبرام اتفاقية. جيريمي هانت: الاتحاد الأوروبي يغامر بقطيعة طويلة الأمد مع بريطانياجيريمي هانت: الاتحاد الأوروبي يغامر بقطيعة طويلة الأمد مع بريطانيا ودون إبرام اتفاقية ستنفصل بريطانيا على نحو غير منظم عن الاتحاد الأوروبي. ويعتقد ديفيد ديفيس أن المملكة المتحدة تسير نحو “نصف بريكست”، ويرى أن خطة الانفصال المطروحة، والتي قالت ماي إنها ستقود بنفسها المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشأنها، (ينوبها دومينيك راب وزير الدولة لشؤون الانسحاب من الاتحاد)، تهدد ببقاء بريطانيا محتجزة في المنظومة الأوروبية حتى بعد مغادرتها للاتحاد. في ظل هذا الجدل، يبدو البريكست متعثرا على صخور تناقضاته الخاصة والمساومات والتسويات التي يحتاجها. فعلى مدى أشهر والحكومة البريطانية تحاول فعل ما يبدو مستحيلا: تغادر بريطانيا السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الجمركي وتتجنب إقامة حدود بين جمهورية أيرلندا وأيرلندا الشمالية وتضمن وجود صفقة للمملكة المتحدة برمتها (أي التأكّد من عدم وجود صفقة منفصلة تخص أيرلندا الشمالية)، وتبقى ماي ملتزمة بثبات بمغادرة السوق الموحدة وتفادي حدود مادية صلبة. لكن، مغادرة السوق الموحدة ستتطلب الحاجة إلى المراقبة على الحدود الأيرلندية أو ترتيبات خاصة بالنسبة إلى أيرلندا الشمالية، وهي مسألة استبعدتها تيريزا ماي والحزب الوحدوي الديمقراطي الأيرلندي الشمالي الذي يعضد حكومتها الأقلية. وتبدو هذه المواقف غير متجانسة مع بعضها البعض، وفق توماس راينس، الذي يشير إلى أن الحدود الأيرلندية أصبحت بمثابة نقطة ضعف بالنسبة لعملية بريكست. ولا توجد حاليا بنية تحتية حدودية بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا حيث أسقطت العضوية في الاتحاد الأوروبي إضافة إلى عشرين عاما من السلم الحاجة إلى بنية تحتية مادية على الحدود. ويخشى الطرفان بأن إقامة الحواجز المادية قد تبطل عقدين من التقدم السياسي والاقتصادي، وبالتالي فهما ملتزمان بتجنّب هذا المآل. بيد أن ذلك يحد بشكل كبير المجال أمام المملكة المتحدة للخروج عن الاتحاد الأوروبي. ترتيبات معقدة Thumbnail أتت استقالة بوريس جونسون بعد ثلاثة أيام من موافقة مجلس الوزراء على موقف جديد لبريطانيا في مسألة مستقبل العلاقة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، وذلك في محاولة لحل هذا اللغز. ويتمثل مقترح الحكومة في البقاء في السوق الأوروبية للسلع لكن ليس للخدمات إذ أن مغادرة سوق الخدمات لا يخلق المشاكل الحدودية نفسها، والحكومة تعتقد بوجود مجال لتحرير تجارة الخدمات مع اقتصاديات أخرى خارج الاتحاد الأوروبي. بالتوازي مع ذلك تقترح ترتيبات جمركية معقدة تجمع بموجبها المملكة المتحدة رسومات جمركية لمصلحة الاتحاد الأوروبي عن كل السلع التي تدخل المملكة لكنها متجهة إلى الاتحاد الأوروبي، والحال أنها تطبق رسومات بريطانية (من المحتمل أن تكون أدنى) للسلع الموجهة إلى المملكة المتحدة فحسب. مرة أخرى، هذه العملية المعقدة مصممة في جزء منها لتفادي حدودا في أيرلندا مع الاحتفاظ ببعض حرية المناورة في السياسة التجارية. ويرى المنتقدون لهذا المقترح من الجانبين بأنه عبارة عن قبول القواعد مع فقدان النفوذ، وفي الوقت ذاته يشككون في مدى فعالية الخطة الجمركية على أرض الواقع. توماس راينس: من المستبعد أن تقبل بروكسل مقاربة تيريزا ماي في شكلها الحاليتوماس راينس: من المستبعد أن تقبل بروكسل مقاربة تيريزا ماي في شكلها الحالي وفق توماس راينس هناك شيئان مهمان يجب معرفتهما حول هذا المقترح؛ الشيء الأول هو أنه ثمرة تفاوض داخل حزب المحافظين، بدلا من أن يكون تفاوضا مع الاتحاد الأوروبي، إذ سعت تيريزا ماي إلى إعداد نوع من المخطط لبريكست يعكس رغبة المغادرين لاسترجاع السيادة والاستقلال التجاري، مع حرص الباقين (وقطاع الأعمال) على الحد من التفكك الاقتصادي الناتج عن الانسحاب، يضاف إلى ذلك الحفاظ على الوضع القائم في الجزيرة الأيرلندية. ولهذا فإنه لا يمكن تطبيق وجهات نظر جونسون وديفيس. والكثير من المؤيدين المتشددين لبريكست غاضبون لكن إلى حد الآن يبدو أن ماي تتمتع بدعم أغلبية النواب في البرلمان التابعين لها. والشيء الثاني هو أنه من المستبعد جدا أن تقبل بروكسل المقاربة في شكلها الحالي؛ فالاتحاد الأوروبي له خطوطه الحمراء الخاصة به في هذه المفاوضات. ويتمثل المبدأ الرئيس لهذه المفاوضات في عدم تقويض وحدة السوق الأوروبية الموحدة (والحريات الخمس: السلع ورأس المال والخدمات والعمالة التي ترتكز عليها). وسيتم تأويل الاتحاد الطموح لسوق موحدة في السلع فقط على كونه شكلا من أشكال قطف الثمار، أي محاولة انتقائية للحفاظ على فوائد العضوية دون الالتزام الكامل بالواجبات. في حين أن زعماء الاتحاد الأوروبي ينظرون إلى السوق بمعنى أكثر شمولا وقانونية إيمانا منهم بأن عدم قابلية السوق إلى الانقسام هو جزء ضروري للحفاظ على التوازن السياسي للاتحاد. فُكّ جزءا معينا، وامنح بريطانيا صفقة خاصة، والشيء برمته يمكن أن ينحل. على مستوى عملي أكثر، تشكك المفوضية الأوروبية في إمكانية الفصل الفعلي بين السلع والخدمات بالطريقة التي تتمناها بريطانيا. وبينما قد تكون هناك بعض الفوائد بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي في سوق موحدة للسلع، حيث أن الاتحاد الأوروبي يملك فائضا في تجارة السلع مع بريطانيا، لكن عجزا في الخدمات، وسلاسل التزود مدمجة عبر القارة الأوروبية، فهذا لا يتغلب على الأولوية السياسية في المحافظة على السوق. وبشكل أوسع يرى الزعماء الأوروبيون اتحادا يواجه عدة تحديات وانقسامات سياسية، وفي مثل هذه الظروف تكون الأولوية القصوى للحفاظ على وحدة وحرمة المنظومة الأوروبية. أين يسير بريكست Thumbnail انطلاقا من هذا الوضع، يتساءل توماس راينس: أين يسير بريكست؟ ليجيب بأنه من المحتمل أن يتم تخفيف الوفاق الحكومي أكثر في المفاوضات في بروكسل. ويبقى السؤال عن كيفية التحكم في دليل القواعد التنظيمية المشترك عندما تريد بريطانيا الخروج من السلطة القضائية القانونية للاتحاد الأوروبي دون جواب شاف وكاف. فضلا عن ذلك، من المرجح أن تخلق المسألة الحساسة للهجرة بين لندن وبروكسل المزيد من الانقسامات. قد يحاول الاتحاد الأوروبي دفع بريطانيا في اتجاه اتفاق شبيه بالاتفاق المبرم مع النرويج حيث تبقى في السوق الموحدة بالكامل لكن مع ترتيبات محسنة في ما يخص الجمارك، وهو شيء سيعتبره المشككون على أنه ليس هناك من بريكست غير الاسم. سيحتاج المؤيدون لبريكست أن يقرروا ما الأهم للمملكة المتحدة هل هي مغادرتها بالطريقة التي يريدونها أم المغادرة فحسب. هل يقبلون نسخة أقل “نقاوة” من حلمهم أو يساندون حلا وسطا لضمان مغادرة بريطانيا بالفعل؟ مايكل غوف، وهو مؤيد بارز آخر لبريكسيت وبقي في الحكومة، اتخذ نظرة أطول تتمثل في الخروج بحلول مارس 2019، ويمكن للعلاقة أن تتشكل وتتطور في المستقبل، في حين يتخذ آخرون موقفا أكثر تشددا متهمين الحكومة بالخيانة، لكنهم أقلية وليس من الواضح إن كانوا مستعدين أو قادرين على إسقاط ماي وإطلاق العنان لمزيد من الفوضى السياسية. يبدو أن فوضى كهذه لا مناص منها في نقطة ما في الخريف. هناك قمة أوروبية حاسمة في أكتوبر، ومازال على المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يتفقا على شكل ما يسمى ترتيب “سند الظهر”، وهو عبارة عن بوليصة تأمين من إقامة حدود مادية بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا إن لم تنجح أنظمة جمركية أخرى. ووافقت المملكة المتحدة على “سند الظهر” لكنها ترى اقتراحات الاتحاد الأوروبي حول هذه المسألة خطرا على الوحدة الدستورية للاتحاد ثم إن أي اتفاق سيحتاج إلى أن يمر عبر المملكة المتحدة والبرلمانات الأوروبية، وبوجود حكومة أقلية ومعارضة جزء مهم من حزبها قد تبحث ماي عن الدعم من البعض ممن هم في المعارضة لتفادي السيناريو الكارثي “‘لا اتفاق”.
مشاركة :