لقد أحدثت الثورات العربية في عالمنا العربي ضجيجاً وصراخاً استمر سنوات عدة، محاولةً رسم خريطة عربية قادمة لأجيال تلك الدول التي كانت متعطشة للتغيير لمجرد التغيير من دون خطوات مرسومة وواضحة المعالم، وقد تكون الرغبة في السير على خطى دول عدة استطاعت أن ترسم تجارب ديموقراطية وتؤسس لمبادئ الحكم الرشيد والعدالة الاجتماعية وقيمها ومبدأ تداول السلطة العادل والمبني على رضاء الشعوب واختياره لحاكمه، إلا أنه غاب عن من ركب موجة «الثورات» أن التجارب الأوروبية مثلاً في تأسيس تلك الأطر والمبادئ لعملية التحول الديموقراطي قامت على «إرث» من الصراعات والحروب الطاحنة لسنوات وأجيال، إلى أن استطاعت الوصول إلى تلك الأجواء الديموقراطية والتجارب الناجحة. ولعل الأمثلة كثيرة في أوروبا، مثل رومانيا والمجر وبلغاريا وبولندا على تلك النماذج، والتي تجعلنا موقنين بأن الاستقرار السياسي والتحول للنمط الديموقراطي ليس وليد يوم أو سنة، ولا بد لنجاح ذلك التحول من وجود استقرار اقتصادي عالمي لتنجح تلك التحولات كما حصل مثلاً في الأرجنتين وإسبانيا والبرتغال عندما كانت هناك طفرة في الاقتصاد العالمي واستقرار. ولعلي أريد أن أصل إلى فكرة مهمة في سياق حديثي، وهي أن ما يسمى بالربيع العربي هي تحركات غير مدروسة وفوضوية مدعومة من أطراف دولية فاعلة في المجتمع الدولي، أو دول عربية تبحث عن الفوضى في المنطقة العربية، ولم يكن ذلك الدعم هادفاً لاستقرار تلك الدول بقدر ما كان يسعى إلى خلط الأوراق على الصعد كافة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتنفيذ خطط لتقسيم بعض الدول وإرضاخها بشكل أو بآخر، وأيضاً إقصاء حكوماتها التي تمثل قلقاً لبعض الدول، ولذلك لم نجد ذلك الربيع يلامس أي دول غربية حكوماتها مستبدة أو ذات أنظمة إقصائية، لذا، كان فقط ربيعاً عربياً مطلقاً موجهاً للعرب، نابعاً من رغبة الشباب الطامح فقط للتغيير من دون وجود أسس مدروسة للتغيير لتساعد في نجاح التغيير كما حصل في دول غربية عدة. استطاعت دول أن تتماشى مع تلك الثورات الممنهجة، ونأت أخرى عنها لعدم فهم أهدافها بشكل واضح وخوفها من تبعاتها، واستمرت تعصف لفترة بالمنطقة، ثم انتهت تلك الموجة لتخلّف لنا كوارث نلمس نتائجها الآن ونتذوق مرارتها على المستوى الاقتصادي والسياسي، لدرجة أن بعض الدول أصبح مواطنوها يتغنون بعودة تلك النخب الحاكمة التي كانت من وجهة نظرهم فاسدة، فمثلاً مصر الآن تعاني غلاءً مهولاً في الأسعار لم يسبق أن مر عليهم، وكذلك تونس غلاء وركود اقتصادي وسلسلة من المشكلات الاقتصادية، التي جعلت البعض يترك وطنه للبحث عن فرص معيشية أفضل، وليبيا تعاني انعدام الأمن والتحزبات التي عصفت باستقرار البلاد، إضافة إلى النهب والسلب لمقدرات البلاد، بل والاستفادة من مقدرات البلد خارج إطار الدولة والمتاجرة، وكذلك الثورة السورية التي تصدت لها روسيا وأقحمت نفسها فيها بقوة لحماية مصالحها وتغيير موازين القوى على الواقع فقط، ولمجابهة الولايات المتحدة وتركيا وغيرهما، بل إن بعض الدول الفوضوية استغلت ذلك «الربيع» لمد نفوذها في دول أخرى، كما فعلت إيران في العراق وسورية واليمن والبحرين، إذ استطاعت أن تتغلغل في تلك الدول وتصبح جزءاً من اللعبة السياسية داخلها وفق أجنداتها السياسية، وهذا ما يدعوني لأن أعيد التساؤل؛ ماذا بعد الربيع العربي؟ وماذا كانت محصلة تلك الثورات وهذا الربيع؟ إن ما خلفه «الخريف» العربي من نتائج، قد يتغنى البعض بنجاح تجربة الانتقال الديمقراطية في الشقيقة تونس والحصول على الحرية المنشودة، لا تسمن ولا تغنى من جوع، وما زال المواطن يدفع فاتورة ذلك على الصعد الاقتصادية كافة، إضافة إلى عدم الاستقرار السياسي المأمول.
مشاركة :