يلجأ التقليديون إلى الاعتراض على التحرير من خلال التشكيك بجدواه، وذلك عن طريق ربطه بالمسار التنموي العام. إنهم ينظرون إلى المسألة النسوية من خلال الجدوى التنموية؛ لا لأن التنمية تشغلهم حقيقة، وإنما لأنهم يريدون جعل المسألة النسوية مشروطة بمسيرة تنموية فاشلة في الواقع العربي يحاول بعض التقليديين الهروب من ضغط الخطاب التحرري (= خطاب تحرير المرأة) بالإحالة إلى مصدر المشكلة (= سدنة الخطاب التقليدي)؛ ليكون الحل على أيديهم. يريد من مصدر التشدد أن يكون هو المرجعية عند الخلاف، أي أن يكون أشرس الخصوم هو الحكم! الأنكى، أن بعض الاعتراضات التقليدية تأخذ طابع النصيحة الصادرة عن وعي كهنوتي مستحكم. هؤلاء لا يرون الآراء والأفكار والقضايا محل النقاش، مجرد آراء وأفكار مطروحة للبحث والنقاش والاختبار العملي، بل يرونها قضايا محسومة، وما الآراء المتوارثة التي تدور حولها إلا سِرٌّ من أسرار الدين التي يجب تلقيها عن سدنة التقليد الأثري بالقبول التام، دون أدنى حوار بشأنها. وإذا تسامح بعضهم ورأى جواز نقاشها فهو يحصر هذا النقاش برجال التقليد، الذين هم أهم أسباب رسوخ المقولات التقليدية التي تضطهد المرأة على أوسع نطاق. في سياق ممانعة المتلقي التقليدي؛ المرأة المسلمة تصبح على حدود الصراع مع الغرب؛ فلا تصبح القضية: (قضية امرأة)، (قضية إنسانية)، (قضية تنموية)، وإنما تصبح مُحورا من محاور الصراع مع الغرب. وبما أن (الحياة الغربية) – كما يتصورها السلفيون - هي حياة الأضداد المنافسين، وربما الأعداء الشرسون!، فهي – أيضا - الحياة المناهضة للتزمت الأخلاقي الذي هو المهاد الاجتماعي للتقليدية. ولهذا لا يكتفي المتلقي التقليدي باتهام خطاب تحرير المرأة بأنه يدعو إلى الحياة الغربية، بل يعمد إلى نقل أشد الصورة الغربية إثارة للوعي المحافظ (مهما كانت نادرة وشاذة)، فيَتَّهم دعاة التحرير بأنهم يسعون لترويجها في مجتمعهم المحافظ. لهذا، لم يكن غريبا ولا عجيبا أن يرد عليّ أحدهم ويتهمني بأنني أنتظر اليوم الذي يأخذ فيه الأب المسلمُ ابنته إلى الطبيب النفسي (كما يفعل الغربي في زعمه وفق الإشاعات الصحوية الدارجة!)؛ لأنها لم تستطع إيقاع زميلها في علاقة جنسية معها. هو هنا يضع طرحي في سياق يضمن فيه الحصول على أقصى درجات الرفض الاجتماعي له. إنه لا يضعه في سياق حقوق المرأة، بل ولا في سياق الجدليات الطبيعية حولها؛ كما هو الأمر في واقع الجدل الحقوقي، وإنما يضعها في سياق الانحلال الأخلاقي، بل في سياق الانحلال الأخلاقي الذي يصل به إلى أقصى حد، حيث يباركه رأس العائلة في الغرب (طبعا، وفق التخيلات التقليدية/ الصحوية). بمعنى أنه يقول للقارئ: إن وافقت على أطروحة الكاتب في هذا المقال؛ فكأنك تُبارك لابنتك انحلالها الأخلاقي، بل وكأنك تدفعها إلى الانحلال بالقوة؛ بوصفه (= الانحلال) أمرا طبيعيا في الحالة الغربية، ويُريد له الكاتب هنا أن يكون طبيعيا! وزيادة في الاستعداء على خطاب التحرير النسوي، يتم وضع الغرب في هذه الردود ذات الطابع التقليدي في مقابل الدين، وليس في مقابل المختلف الأخلاقي، أي العادات والأعراف المرتبطة بالهوية الاجتماعية للشرق. وهنا، لا يصبح الغرب - الذي وضعه التقليديون مع خطاب تحرير المرأة في سياق واحد – مُنحلا فحسب، وإنما يصبح – إضافة إلى ذلك - هو الغرب المعادي للدين، وتصبح مسألة التحرير – جراء هذا التحوير المتعمد – ليست مجرد انحلال أخلاقي، أي ليست مجرد معصية تكبر أو تصغر، بل كفر صريح يستتبع كل أحكام التكفير. تكشف لنا مقولات الرفض التقليدية - من غير قصد – عن وحدة الخطاب التقليدي الانغلاقي. فمن خلال استحضار معظم الاعتراضات يتأكد لنا أن هؤلاء الذين نراهم ضد مشاريع تحديث الواقع النسوي، لا يقفون هذا الموقف السلبي من المرأة كموقف خاص معزول عن مجمل الرؤية التي ينتمون إليها. إنهم لا يرفضون واقع المرأة فحسب، وإنما يمتد سخطهم إلى واقع المجتمع ككل، وما المسألة النسوية إلا ميدان صراع ذي رمزية معتبرة في العرف الاجتماعي، بيحث تنعكس نتائج الصراع – أيا كانت نوعيتها – على بقية الميادين. أضرب هنا بمثال؛ كي يتضح المقال. أحدهم يبدأ اعتراضه على بعض ما طرحته في بعض المقالات من مقارنة بين واقع (المرأة الماليزية)، و(المرأة الطالبانية) بقوله: "لو سلمنا بما ذكرته من تخلّف المرأة الطالبانية وتطوّر المرأة الماليزية...إلخ". هكذا، بإنكار تخلّف واقع المرأة الطالبانية (ثم تبين لاحقا من خلال ردوده أنه يرى طالبان هي النموذج الأكمل، الذي يمثل "منهاج النبوة"، كما يقول صراحة)، في مقابل إنكاره تطوّر واقع المرأة الماليزية. وهنا تبرز التصورات غير المعلنة، حيث النموذج الأمثل القابع في أعماق الوعي هو النموذج الطالباني، الذي يسعون حثيثا لاستدعائه بكل السبل؛ ولكن حسب ما تسمح به الظروف. أي أنهم لا يسعون إلى تثبيت الواقع النسوي المتخلف لدينا فحسب، وإنما يعترضون على هذا الواقع بوصفه واقعا منفتحا/ متطورا أكثر من اللازم، بل يعترضون على كل الواقع، وليس الواقع النسوي خاصة، ويحاولون تغييره في اتجاه (وضع طالباني) أكثر تزمتا وتطرفا. حتى غياب المرأة (= تواضع حضورها في الفضاء العام) يراه هذا الطرح التقليدي غيابا مفتعلا، فالمرأة – كما يزعم - حاضرة وفاعلة، ولكن حضورها وفاعليتها لا تُرى إلا من خلال الحضور الذكوري. فالمرأة – كما يقول أحدهم – تظهر في الأجيال التي تتربى على أيديها (كائن موجود بغيره!)، إنها "كمُعِدّ البرنامج الذي لا يظهر على الشاشة، بينما له دور رئيس في نجاح البرنامج". وهذا بلا شك التفاف بهلواني على واقعة التغييب التي تقشعر من برودتها كل مفاصل الواقع التنموي على امتداد هذا الوطن الكبير. ويبقى الاتهام بالتآمر أسلوبا تقليديا في طريقة تلقي التقليديين لخطاب تحرير المرأة. لقد أصبح كلُّ من يناقش وضع المرأة السائد، هذا الوضع الذي تتحكم في رسم معالمه قُوى التزمت التقليدية، هو بالضرورة متآمر، أو – على الأقل - أداة في يد المتآمرين من حيث يعلم أو لا يعلم. لكن، ومع تصاعد الاتهامات بالتآمر وتضخمها في (رسائل علمية!)، إلا أن المقولات التقليدية لا تُبيّن ملامح المؤامرة، ولا هوية المتآمرين، ولا إلى ماذا يقصدون. هذه المقولات ذات النَّفَس الإخواني (الإخوان هم أكثر من روّج لنظريات المؤامرة على اختلاف مصادرها) تكتفي بوضع شبح المؤامرة، ونسبتها إلى الأعداء؛ ليتم غلق أي نافذة للتغيير. تقول إحدى المخدوعات بشعارات التقليديين عن المؤامرة: "المرأة في بلادي تعيش في مرحلة امتحان وهي تتعرض لكيد الأعداء ومكر الفجار". هكذا، بكل ثقة، مع أن المؤامرة الحقيقية لا بد – كي يتم التعامل معها كتهمة معتبرة في المجال الثقافي - أن تكون واضحة المعالم، مُدانة بوثائق وقرائن تفصيلية، لا أن تكون تُهَما سجالية صادرة عن التهويم الصحوي المحلق في فضاء أحلام اليقظة التي تملؤها كوابيس عُقد الاضطهاد. ومن الحيل المكشوفة التي يمارسها المتلقي التقليدي لصدّ فاعلية الخطاب التحرري، أنك تجد الحديث يكون عن: (المرأة في مجتمعنا) تحديدا، وفي النهاية التي تتعلق بالمقابلة مع الغرب (الذي يتم استحضاره كنموذج ضدي، أو كنموذج منافس) يصبح الحديث عن: (المرأة المسلمة). وهذا التداخل على مستوى صريح الخطاب، يكشف عن قناعة راسخة في عمق الوعي الأصولي المحلي من حيث رؤيته لموقعه في السياق الإسلامي، حيث لا ينظر إلى نفسه كجزء من هذا السياق العام للمسلمين فقط، وإنما - أيضا - ينظر إلى نفسه كقيّم (من خلال تصور الذات كنموذج/ مثال معياري) على إسلامية السياق الإسلامي كله! هذا النَّفَس الوِصَائي يبدو واضحا في الشعور المعلن الذي يؤكد أن المتغير الذي يمس هوية المرأة هنا؛ هو متغيّرٌ يمس هوية المرأة المسلمة في العالم أجمع. فَوِفقَ هذا الشعور المُتنرجس، والمتلبس بشيء غير قليل من الطهرانية المزعومة: الغرب لن يشعر بغياب (المرأة المسلمة)؛ إذا كانت (المرأة السعودية) حاضرة؛ فحضور الجزء "الأهم" هو حضور لبقية الأجزاء. ومن ثمّ، فحضور (المرأة السعودية) في الفضاء العام، ذلك الحضور الذي يتمثله الوعي المتزمت بوصفه انحرافا/ انحلالا؛ هو – وفق هذا التصور المتنرجس - موافقة صريحة على انحراف/ انحلال (المرأة المسلمة) في كل أنحاء العالم الإسلامي. وعليه؛ فالمرأة هنا إذ ترفض التحولات التقدمية/ التنويرية برفض الحضور العمومي، لا تحفظ وتصون نفسها في الواقع المحلي/ السعودي فحسب، وإنما تحفظ وتصون المرأة المسلمة في كل أنحاء العالم الإسلامي. وكفعل مُراوغ؛ يتّخذ بعض التقليديين أسلوب الاعتراف بجزء من الحقيقة في أصل الحكم الشرعي، ثم مصادرة هذا الجزء المعترف به؛ بحجة أن الواقع لا يتحمله، أو أن التغيير يحمل بعض الأضرار التي تُغطّي على إيجابية تفعيل مسائل الخلاف. وهو هنا لا يريد إلا قتل الخلاف من أساسه لصالح رؤيته المتزمته. أذكر أن أحدهم كتب تعليقا غريبا في تصوره لمسألة الخلاف برمتها. وفكرته تتلخص في أن مسألة غطاء الوجه (وهي التي كان النقاش حولها) فيها قولان معتبران، وما دامت كذلك، وما دام غالب الناس هنا يأخذون برأي شمول الحجاب للوجه واليدين، فلماذا الإصرار من قِبَل التنويريين على طرح الرأي الثاني، وكأن الناس على خطأ يُراد لهم تغييره. ثم يقول: أنتم كمن يلزم أهل مصر والشام برأينا. واضح أبعاد التلاعب بالخلاف هنا. فهذا المعترض يُنكر طرحه الرأي المخالف له وكأن القائلين به يفرضونه على الناس فرضا، أو كأنهم يُشنّعون على من يأخذ بالقول الآخر؛ مع أنهم كانوا يطرحون رأيهم كخيار، مصرحين بأن للقائلين بالرأي الآخر خيار الاقتناع بما يعتقدون. التنويريون لا يرون أن الناس أخطأوا إذ التزموا بالرأي القائل بوجوب تغطية الوجه، ولا أن التقليديين أخطأوا إذ يقولون به كخيار، وإنما يرون الخطأ منحصرا في محاولة بعض الناس أن يجعل هذا الرأي هو – وحده – الصواب، وما سواه خطأ شنيع، ورأي فظيع. أي أن التنويريين لا يُنكرون على التقليديين خيارهم، وإنما ينكرون عليهم إقصاءهم للرأي الآخر المخالف لهم. ولو أن التقليديين اكتفوا بمجرد اختيار رأي على رأي – كما يفعل التنويريون – لم ينكر عليهم أحد. ومن هنا، فقوله: "أنتم كمن يلزم أهل مصر والشام برأينا"، لا مكان له؛ لأن التنويريين لا يُلزمون أحدا، بل يطرحون خيارات مشروعة منذ فجر الإسلام الأول. أحيانا يتوسل التقليديون ب(العلمية) ليَشْغبوا على بعض مسارات تفعيل المرأة. إنهم يأتون بدعاوى كبيرة، يُحيلونها إلى العلم، دون أن يُوثّقوها في المصادر العلمية المعتبرة. أحد دعاة التقليد، ولكي يقطع الطريق على المنادين بقيادة المرأة، زعم أن (العلم!) أثبت أن قيادة المرأة للسيارة تضرّ بالمبايض عند المرأة، مما ينتج عنه العقم! وآخر، وهو داعية فضائي شهير، زعم أن الدراسات العلمية توصلت إلى أنه يوجد لدى المرأة (غدة) تؤثر على تركيزها، وتجعلها غير منضبطة في حال قيادة السيارة! ومع أن التقليديين يبنون رؤيتهم الأخلاقية التزمتية، وخاصة في مسألة الأخلاق الجنسية، على مفارقة الإنسان للحيوان (باعتبار الإنسان – كما يُؤكدون دائما - يختلف نوعيا عن الحيوان، ولهذا يحتاج إلى ضوابط وكوابح، وإذا لم يرضَ بهذه الضوابط والكوابح؛ ينزل إلى مستوى الحيوان)، إلا أنهم – وفي تناقض صارخ – يستدلون بعالم الحيوان (علميا!) على أن عَمَلَ المرأة يكون في البيت أصلا، مؤكّدين أن عالم الحيوانات وعالم الحشرات يدعم هذا التخصيص الوظيفي، حيث نجد – كما يقول أحدهم – الذّكرَ يسعى خارج البيت، بينما الأنثى ترعى الصغار. وبهذا، فعمل المرأة خارج البيت هو – كما يؤكد – وضع غير طبيعي؛ بدليل ما يحدث في عالم الحيوانات والحشرات! يلجأ التقليديون إلى الاعتراض على التحرير من خلال التشكيك بجدواه، وذلك عن طريق ربطه بالمسار التنموي العام. إنهم ينظرون إلى المسألة النسوية من خلال الجدوى التنموية؛ لا لأن التنمية تشغلهم حقيقة، وإنما لأنهم يريدون جعل المسألة النسوية مشروطة بمسيرة تنموية فاشلة في الواقع العربي. يقول أحدهم - معبرا عن هذه المُحاججة الاعتراضية -: "قضية القضايا لديكم أن تكشف المرأة عن وجهها، وعندما تكشف عن وجهها ستنصلح أحوالنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية". وهذا اعتراض يكثر تردده على ألسنة التقليديين، حيث لا قيمة للإنسان من حيث هو كائن حُر، مستقل، مجرد عن بقية الاشتراطات المادية النفعية. وبالتالي، فكشف المرأة لوجهها لا يُنظر إليه من حيث هو مسار تحرري يرتبط بالحقوق الأولية للإنسان، وإنما من خلال دوره في التنمية العمرانية/ المادية، مع أن دعاة التحرير لم يناقشوا هذه المسألة على ضوء عوائدها التنموية إلا كمسائل فرعية/ هامشية، وإلا فالأصل هو الاحتكام إلى مدى تحقق المعنى الإنساني. ولعل من أشد حِيَل التقليديين نفاذا إلى الوعي الجماهيري العام، ما يعمد إليه بعضهم من إلجاء المتلقي/ المتلقية إلى خيارٍ مُربك يتمفصل على ثنائية خطيرة لا تجعل له أي خيار؛ رغم أنها تمنحه – في الظاهر - فرصة الاختيار. فالمرأة – في سياق هذا الخيار الإكراهي! - إما أن تكون خيمة (يعني تظهر بعباءتها كالخيمة تماما = الدرجة القصوى من التزمت)، وإما أن تكون راقصة (بكل ما تحمله هذه الصفة من رمزية انحلالية). أي أن الفتاة – كما ذكرت ذلك صراحة إحدى مَنْ تعرّضن لهذا الإلجاء - يتم إقناعها بأنها لن تستجيب لدواعي الدين والأخلاق؛ إلا بأن تكون (خيمة)، وأنها إن لم تكن (خيمة)، فهي – بالضرورة – ستكون (راقصة)، ولا وسط هنا. وبما أن المرأة في أي مجتمع إسلامي لن تقبل بأي حال أن تكون (راقصة)، فليس أمامها – في مثل هذه الحال - إلا أن تكون (خيمة). وهنا يجري تغييب خيار الوسط، فلا مكان هنا لامرأة حُرّة، تمارس حياتها الطبيعية بعيدا عن التزمت المرضي، و – أيضا – بعيدا عن أوحال الانحلال.
مشاركة :