لا غرو في أن الثقافة الأوروبية بعلومها وفلسفاتها ونظمها السياسية والاقتصادية قد سحرت عيون النازحين إليها من رجالات المستنيرين العرب وتملكت أذهانهم، فعاد بعضهم ساخطا على الشرق وكافرا به، وعاد البعض الآخر وغايته هي الاقتداء بالثقافة الغربية والسير في ركابها، والقليل من هؤلاء عاد وفي يده غربال سكب فيه كل معارفه التي ابتضعها من هناك ليستخلص منها ما يعينه على تجديد ثقافة أمته، وإصلاح ما فسد فيها، وإحياء ما بلي من مشخصات هويته. ولعل ميخائيل نعيمة أحد هؤلاء.هو المفكر والأديب المسرحي والروائي والشاعر والناقد والصحافي اللبناني، ولد في بلدة بسكنتا الواقعة في جبل صنين في لبنان (1889- 1988)، وتعلم في مدرسة القرية ثم التحق بالمدرسة الروسية حتى أتم دراسته الأولية في العام 1902، ومنها إلى مدرسة دار المعلمين إحدى جمعيات الإمبراطورية الروسية في فلسطين لإتمام دراسته الثانوية. ثم انتقل إلى أوكرانيا في العام 1906 لإتمام دراسته الجامعية وتعلم هناك اللغة الروسية وآدابها، كما تعرف هناك إلى فلسفة دوستويفسكي (1821-1881) وتولستوي (1828-1910) وآرائهما الإصلاحية التي سكباها في مؤلفاتهما وأحاديثهما عن دور الأدب والفن في توعية الرأي العام والارتقاء بأخلاقه ومعالجة مشكلاته وتبني قضاياه المصيرية الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. ثم رحل إلى أمريكا في العام 1911 لدراسة الفلسفة والآداب والحقوق في جامعة سياتل في واشنطن، فألم باللغة الإنكليزية وتعرف هناك إلى معظم إبداعات الفلاسفة والأدباء الأوروبيين، واستهوته دراسة ثقافات الشعوب والشرائع المقارنة وكتب الفقه الإسلامي وتفاسير القرآن والحديث، وكتابات النهضويين والتنويريين الأوربيين، وذلك خلال الساعات الطوال التي كان يقضيها في المكتبات والمنتديات الأدبية والحلقات الفنية، ذلك فضلا عن انضمامه إلى الرابطة القلمية التي أسسها الأدباء العرب في المهجر، واتصاله كذلك بالجمعيات الثيوصوفية التي قومت العديد من أفكاره الموروثة ورغبته في دراسة الأساطير والدين الطبيعي ووحدة الأديان، وكان يكتب خلال هذه الفترة في مجلات عدة منها مجلة الفنون الأمريكية ومجلة السائح. حصل على الجنسية الأمريكية والتحق بجيشها أثناء الحرب العالمية الأولى 1918 وسافر إلى فرنسا ضمن قوات التحالف، ثم عاد إلى لبنان في العام 1932، ولقبه قراؤه بـ«ناسك الشخروب» نسبة إلى المكان الواقع في جبل في قريته، والذي كان يتأمل فيه مستلهما معظم آرائه ونقداته وإبداعاته الفنية. ويمكننا إيجاز فلسفة نعيمة في أنساق عدة مترابطة تعكس تأثره بأفكار الأدباء الروس والفلسفة الثيوصوفية وعلمانية فلاسفة عصر التنوير، فضلا عن تعلقه بروحانية الفكر الشرقي وأخلاقياته وانتمائه الحضاري والوطني. فنجده ينظر إلى الدين في جوهره الروحي ومقاصده الأخلاقية بمنأى عن كل أشكال التعصب والطائفية ومتاجرة رجالات الدين وتحالفهم مع الحكام، ومن أقواله عن المسيحية الحقة «إن المصباح الوحيد الذي اهتدي بنوره هو الإنجيل، وقد ضايقني أن تحجب الكنيسة نور ذلك المصباح بغيوم كثيفة من الطقوس والتقاليد… ها هي الكنيسة ورجال الكنيسة يتحالفون مع المال والسلطة، يخدمون الله بألسنتهم وشفاهم لا غير»… وبتأثير من صوفية وحدة الوجود وفلسفة سبينوزا (1632-1677)، لم يفرق بين وجود العالم ووجود الله (الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة)، وأن لا سبيل لمعرفة الله بمعزل عن الوجود الإنساني، ولا يعرف الله حق معرفته إلا بالله. وانتهى إلى أن الكنيسة خانت المسيح يوم جعلت من الأناجيل سلطة حاكمة تجيش الجيوش وتكنز الأموال وتبارك المستبدين والظلمة، وأن المسلمين لن يكونوا خير أمة أخرجت للناس إلا بقدر ورعهم وإحسانهم وبرهم بمخالفيهم وتسامحهم مع الأغيار، ويقول: «لا ما أفلس الدين ولا أفلس من الدين حتى الذين يتهمون الدين بالإفلاس، بل كل ما هنالك أن شعورهم بالله لا يزال في شكل دخان يضيق عليهم أنفاسهم، فيتعذر عليهم معه أن يفهموا كيف أن الشرائع الدينية تداس وتمتهن ويبقى مع ذلك الدين حيا قويا». وينتقل نعيمة من حديثه عن الدين الحق إلى المجتمع المثالي مؤكدا أن الأخلاق وحدها هي التي يمكن أن تصنع الخلاص والسعادة على الأرض، أما الفساد والعنف والشر والكراهية وغير ذلك من الرذائل فجميعها من طقوس عبادة الهمجية. وعن السياسة يرى نعيمة أن كثرة القوانين والمحاكم والسجون، تنبئ بفشل الحاكم ورجالات الدولة في تربية الشعب وتعليمه وتنشئته على حب الوطن والحرية الواعية والعدالة الناجزة. وذهب إلى أن الميتافيزيقا تحدثنا عن مكائد الشياطين الذين يريدون الزج بنا في آتون الجحيم، غير أن الحقيقة هي أن استبداد الساسة وجشع أصحاب الأموال وتجار السلاح هم الذين يصنعون جهنم على الأرض ويطعنون الإنسانية بخنجر مسموم لا يسلم منه أحد. وكان لميخائيل نعيمة إسهامات كبيرة في تيسير اللغة العربية في ميدان الخطابة والقصص والمقالة الصحافية، ذلك فضلا عن تحديث أساليب التقريظ والنقد متأثرا في ذلك بموسوعيته وتنوع ثقافاته، تلك التي جمع فيها بين الدراسات الكلاسيكية والإنكليزية والروسية وإلمامه بفن الكتابة المسرحية. وقد وجه معارفه العلمية وملكاته الإبداعية الأدبية لخدمة قضايا مجتمعه، إذ رفض نظرية الفن للفن ووجه الأدب وجهة إصلاحية لمناقشة قضايا المجتمع ومعالجة أدرانه وهموم المهمشين وأزمات المثقفين وعذابات المضطهدين، وتوعية الجمهور بالقدر الذي يجعله مدركا لحقوقه وواجباته تجاه وطنه وقوميته والأغيار الذين يحيطون به ويشاركونه العيش، وقد وضح منهجه هذا في كتابه «الغربال» الذي صرح فيه بأن الكاتب هو رسول أمته ومعلمها وهاديها ومرشدها ومحاميها والمدافع الأول عن حقوقها، والمعبر الفصيح الصادق عن رغباتها، والبطل المغوار الذي يقودها إلى طريق السعادة حيث الحرية والعدالة والأمن والسلام والتسامح والمدنية والعمران. ومن أقواله «إن الدين والفلسفة هما السجلان اللذان يحتفظ فيهما الإنسان بما اهتدى إليه من الأجوبة التي ما برحت نفسه تطرحها عليه منذ أن وعى نفسه كإنسان: من أنت؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟، والفنون هي السجلات التي تشهد بعراكه ضد كل بشاعة، بفتوحاته في دنيا الجمال، أكان جمالا في الإيقاع، أم في الحركة، أم في الخطوط، أم في الألوان، أم في كل ذلك معا» … «إن مهمة الأدب هي التعبير عن الإنسان وكل حاجاته وحالاته تعبيرا جميلا صادقا من شأنه أن يساعد الإنسان على تفهم نفسه وتفهم الغاية من وجوده، وأن يمهد له الطريق إلى غايته. فللأدب رسالة سامية، وكل من أنكر على الأدب رسالته كان مارقا من الأدب». ويعيب نعيمة على أصحاب الأقلام الذين أهانوا الأدب وتناسوا أن الأديب صاحب رسالة سامية وأنه معلم يغذي العقول والقلوب معا، فراحوا يتحدثون عن الشهوات والمطامع الجنسية غير عابئين بمثل هذه الإباحية على وجدان الشباب وأحاسيسهم، ويقول «ليس من ينكر ما للعاطفة الجنسية من بالغ الأثر في حياة الإنسان، ولكن من ورائها غاية إذا نحن أدركناها بدت كل لذة بهيمية تجاهها قذارة ودعارة. فالإنسان ما انشطر إلى اثنين فكان ذكرا أو أنثى إلا ليقطع مرحلة الثنائية (الخير والشر) فيعرف نفسه ويعود فيتوحد في الإنسان الكامل الذي ليس ذكرا ولا أنثى». ويعيب كذلك على الكتاب الذين يتاجرون بمشاعر الجماهير فيهيجونهم باسم شعارات لا يعرفون دلالاتها ولا معانيها، مثل الحرية والعدالة والديموقراطية والمساواة، ولا يستهدفون من ذلك إلا شهرة أقلامهم أو إشعال نيران الفوضى في المجتمع، ويقول «العدل ملح الأرض، والحرية لب الحياة، ويا ليت هؤلاء يسألون أنفسهم: ما هو العدل؟ وما هي الحرية؟ وهل في استطاعتهم أن يعدلوا إذا ألقيت إليهم مقاليد الحكم وأن يعلموا غير العدل؟ وهل هم حقا أحرار ليهدوا الآخرين إلى الحرية؟ إذا لأدركوا أن العدل ليس في استبدال قانون بقانون. وأن الحرية ليست في تحطيم حكم وتركيز حكم». وقد عبرت كتابات ميخائيل نعيمة عن مدى أصالته وإخلاصه لعروبته وانتمائه لثقافته التي نشأ فيها، فموسوعيته وإلمامه بالثقافات الغربية لم تجعل منه بوقا من أبواقها ولا مروجا لنظرياتها المناهضة لتراثه على الرغم من تأثره بآدابها ومناهجها النقدية وأساليبها العلمية وفلسفاتها المختلفة، أي هو أنموذج للمفكر المستنير، والمصلح المجدد الذي تجند طيلة حياته لخدمة مجتمعه، والفنان الذي آمن بأن هناك ثوابت ومتحولات ضابطة لمشخصات الهوية تمنعها من الخلط بين الحرية والإباحية، بين التدين والتعصب، بين النقد والقدح، والتجديد والتبديد، والتأثر والتبعية. وإذا كانت الحكومة اللبنانية قد منحته وسام الاستحقاق في العام 1987 اعترافا منها بفضله وإجلالا لمكانته بين النهضويين العرب، فإننا اليوم نقدمه لبعض شبيبتنا الذين استنكروا لمشخصاتهم وجحدوا هويتهم واستغربوا ورفعوا شعار الفن للفن غير عابئين بمآلات التقليد وتبعاته وآثاره على المجتمع وأعرافه وتقاليده التي تشكل بنية ثقافته، وذلك تارة باسم الحرية وأخرى باسم ما بعد الحداثة، تلك الألفاظ التي يرددونها والشعارات التي يتبنونها من دون إدراك معانيها أو استيعاب مراميها.*أكاديمي وباحث من مصر معسكرات الأبد تأليف: سليم بركات«لم يكن في عيونها أي ملمح للحقد، وهما يدوران أحدهما حول الآخر. كانا ذاهلين حتى أعماقهما، كأنما هما منكفئان إلى داخليهما للإعداد طويلاً وعلى نحو محبوك للضربة القادمة. وفي دورانهما المتوفر كانا يتركان آثاراً خشنة في الطين الخريفي على الهضبة المشرفة على الجسر الذي يصل السهل الكبير بالبلدة المتناثرة شمالاً». اليوميات (1950 - 1962) تأليف: سليفيا بلاثيضم هذا الكتاب، يوميات الشاعرة بين عامي (1950 - 1962)، إذ تكشف هذه اليوميات عن ميولها الانتحاري، ورغبتها العارمة في الموت الذي وصفته في واحدة من قصائدها بأنه شيء يشبه الفن، كما تسرد وقائع احتجازها في مصحة للأمراض النفسية ومحاولتها الانتحار وهي في العشرين من عمرها. المرأة والألوهة المؤنثة تأليف: ميادة كيالييضعنا هذا الكتاب في منطقة رصد علمية عالية لأكبر حدثٍ بشري طبعت أصابعه كلّ تاريخنا ببصمات الرجال المتباهين بفحولةٍ بيولوجية، سرعان ما تحولت إلى فحولةٍ حضارية ودينية وثقافية، أضعفت المرأة ونالت من قيمتها وأهميتها، وبذلك ضعفت المجتمعات، ووهنت الحضارات...
مشاركة :