الحُلمُ برؤى غاستون باشلار «منسّقُ الحياة»، وبداية مِن حُلمِ «نيتشه» العجائبيّ التأمُّلي الذي يفتتحُ الروائي بأبجديتهِ عملَهُ السرديّ: «ستنقلبُ السّاعة الرملية الأبدية للوجودِ دون انقطاع، وأنتَ أيضاً ستعودُ معها ذرة غبار».. إلى حُلمِ الراوي - الكاتب الحالم الأكثر قلقاً واضطراباً، وساعتهُ عقاربها الجهنمية تتحرك في اللا تجاه، وفي اللا زمن، إذ يصبحُ الحلمُ أحلاماً، كوابيسَ، رؤىً.. وكلّ حُلمٍ ممتدّ بإيقاعهِ الذي يتخذ أشكالاً متعددة من الواقع، الحلم إلى الفانتازيا إلى العجائبي وإلى الخيال العلمي، ولا يُنبئ أبداً بسعادةٍ وأمانٍ، ولمْ يعُد الراوي، الذات الكاتبة حتّى ذرة غبار، بل لا أحد، ولا شيء، اسم بلا اسم، كيان في الفراغ يُؤرّخُ لهُ حلمٌ بكيمياء كابوسٍ مُضنٍ: «يبدو أنّني سرعانَ ماغفوت، إذ رأيت شجرة بلوط ضخمة ومعمّرة، تربضُ فوق أغصانها الكثيرة نسورٌ ذات أجنحة طويلة، ومخالب حادة كبيرة ومعقوفة»، الرواية. ولأنَّ «الفنَّ لعبة خيالٍ خطرة» – كما يقولُ لوبيل، والأدب والسرد على وجه الخصوص بمجموعهِ مُتخيّل، والخيال يتمتعُ بقدرٍ هائلٍ من الجرأة، فإنَّ حلمَ الراوي نسيج خيالٍ ابتكاريّ منتجٍ، يُقرأ بإيقاع الفانتازيا الراقية، سليلة إيحاء تعبيري جمالي، ووسيلة جذب ودهشة ومتعة وتأمُّل معاً.. كلّ ذلك فنّ كتابة سرديّة متميزة، ذات هوس سيكولوجي محضٍ، كتابة لا تشبهُ إلاّ نفسها، هي بالضبط ما تسمّيه آسيا جبار «كتابة الحفر» أي «كتابة للمقاربة، للإنصات»، كتابة بعدَ الكلمات، وبعد الخيال، وليست كلّ أصابع تمتهنُ عزفَها بهذا الجنون الضروريّ، وليست كلّ قريحة يمكن أن تنغمها بهذه الأوتار الموصولة بماكينة جسدٍ مضنٍ، أسير حلمٍ فانتازي، عجائبي..! ومن الحُلم الماضي «ما كان» إلى الحُلم الحاضر، الواقع و«ما سيكون»، يبدأ حلمُ اليقظة في «التشكّل عن طريق السّماح للخيال بالتجوّل» حسب تعبير بول فاكا، بأداءٍ وإيقاعٍ سينمائي باذخ في صورته المعبّرة، وهي خليط بديع من الواقع - الخيال، والخيال - الواقع، حين يقبضُ السرد المتقن على اللحظات المعيشة لأناسٍ يتعلقون بالحياة، ويهدّدُهم ويرعبُهم ويقضّ مضاجعهم الموت المداهم، متخذين وسائل عدّة لاتقائهِ، أمّا بالدعاء أو بالدمع أو سكينة الروح.. إنّه حلمُ يقظة - الحدس: «اهتزت الطائرة وتأرجحت بعنفٍ، فنهضَ المسافرون من نومهم مذعورين، واضطربَ الوضعُ في الطائرة.. أحد المسافرين غطّى وجهه بيديه، وأخذ يبكي كطفلٍ صغيرٍ، مسافرٌ آخر أخرج مصحفاً صغيراً، وبدأ يقرأ بصوتٍ مرتعشٍ». ولانَّ «الخيال يكتشفُ مجالاتٍ لا متناهية للعبِ في الرواية» كما تقول جوين، والرواية، السرد جنس أدبي بلا تخوم، يمتلك سلطة احتواء كلّ الفنون، ويستفيد من كلّ الأجناس الأدبية والفنيّة، عبر كتابة فسيفسائية مدهشة الظلال، بعيدة الدلالات، وببلاغة باذخة، تبدو كُلاّ جمالياً واحداً، و ينتقلُ الكاتبُ، ضمير الراوي، حيث إنَّ («أنا» الكاتب تطلق في العالم الخيالي «أنا» الراوي) حسب تعبير بوتور، من الحلم - الواقع إلى الفانتازي إلى الخيال العلمي، فقط ليُدهش، ويُمتع، ويُثير ويجدّد المزيد من الخيال الابتكاري: «إنَّ الطائرة اجتازت جداراً ضوئياً غير مرئي في الهواء، وطُلِبَ منّا شدّ الأحزمة لأنه سيضطر إلى اقتحام جدارٍ ضوئي آخر». ولأنَّ المصائبَ تجمعُ أكثر من الفرح، وإنَّ إحدى وسائل مقاومة الخوف المداهم رغيفُ الألفة، فأنَّ الراوي (ع.ع) يحظى بألفة - أنثى، عنوان الدفء والأمان، فيها عيناها الواسعتان كحقلي فاكهة مشمسين، ولكن بشررٍ ونظراتٍ غير بريئة، وبدأت الألفة كما اضطراب الطائرة، كما الخوف، كما الصواعق غير مريحة على شاشة الواقع..، الراوي كاتب عربي وعروبيّ حتى النخاع، ورفيقة الرحلة الأنثى إسرائيلية، وحين تتداخل الأزمنة، وتضج ّبحوادث ما قبل وما بعد، تحدث إسقاطات، وتبعث وتُفتح جروح، وعبر الحلم - اليقظة الحدس تتم تصفية حسابات أيضاً، وحسب فرضية الفيلسوف كانت فإنَّ «مشاعرنا، وليست عقولنا هي أدواتنا المعرفية الحقة في الوصول إلى الشيء ذاته، إذ إننا لا نصل إليه إلاّ كما يتبدى لنا»: «نظرتْ إليّ مُدقّقة في ملامحي، قائلة بلغةٍ عربيةٍ سليمة: أووه.. أنتَ عربي، وأنا إسرائيلية! شعرتُ بالدهشة في الواقع، كنت مصعوقاً، إذ لم أصدّق أنَّ إسرائلية ستجلس يوماً بالقرب منّي، وتتحدّث إليّ بهذهِ البساطة». وإذا كان الراوي مأخوذاً بدهشة اللقاء، وقد رتبتهُ ظروف خارجة عن إرادته، فأنَّ رفيقة السفر الإسرائيلية رغم أصولها وأصول أبيها العربية المغربية، تتعاملُ مع العربي بحسّ أجدادها التلموديين، بحذرٍ ولؤم ومكرٍ، ونوايا خبيثة جاهزة ومبيّتة، وتنظر إلى العربي على أنهُ مصدر الشرّ والعدوان حيثما وُجِد، ولهذا فإنَّ الاتهام جاهزٌ، وتخرج الألفة المضادة للخوف، عن إيقاعها الإنساني الحضاريّ إلى العدواني: «لايبدو عليك أنك من أولئك الذين يختطفون الطائرات، ويحتجزون الرهائن الأبرياء». وإذا كان الراوي باحثاً حتى الجنون عن السعادة، ومرح الذات، فأنَّ الرفيقة الإسرائلية معبّأة بماضٍ قاتم، فقهِ أجدادها التوراتيين الذين يعيشون الحياة، بل ينتزعونها بالدم والقتل والعدوان واغتصاب الأرض، وكلّ ما ليس لهم حقّ فيه: «أما زلتم ترغبون في إبادتنا ورمينا في البحر؟». ولمْ يعُد الحديثُ ذا شجونٍ بين الراوي العربي ورفيقة السفر الإسرائلية، وكلاهما يتباريان ببراعة في «المُتخيّل» أصل الجرأة برؤى هنري ميللر، هي تبرع في الأسطورة اليهودية التلمودية، وهي تكشف عن مرجعية اسمها «ليليث» زوجة آدم الأولى التي خلقها الله، وقد تمرّدت على سلطة آدم، وأصبحت معشوقة الشيطان، ورغم ما في الأسطورة من جنوح خيال، كما أعتقد، لكنها واقع الإسرائيلي الذي لا يبدو على شاشة الواقع إلا شيطاناً، وصائغ محترف للأكاذيب فقهِ توراته المزيفة.. والراوي الكاتب يبرعُ هو الآخر في نسج الخيال العلمي، ربّما أراد بهِ التفوق عليها، فيما إذا كانت تباريه في دفقات الحنكة والذكاء، فقط للسيطرة والشموخ والزهو، لتقول إنها مختلفة عن العربيّ وحسب: «إنَّ هناك عوالمَ لا نهائية، فلابدّ أن تكون هناك عدة صورٍ منكِ، تتكرر كلّ منها في بداياتها، وتنطلق إلى نهايات مختلفة، أنتِ موجودة في هذا الكون الهائل الحجم، وهناك أكوان شبيهة بكوننا هذا، لها علاقة بنا، فأنت موجودة في كلّ كونٍ من هذه الأكوان». رواية «ليلة البلّور» مفارقات كبيرة باعثة على التأمّل..! وفضاء للحُلم المُمّتد و«حلمُ اليقظة ضروريّ في سيرورة الكتابة» حسب ديان دوكري.. ومزيد من التخيّل القائم على الممكن.. وبحثُ الراوي (ع) عن (الأب) واقع وحُلم في الآن، وهو صورة مكبرة للبحث عن (الوطن)، وهو يبدو في هوية مضطربة ووجود قلِق عبر سردٍ بشروط الواقع. يقولُ كارلوس فوينتس: «إنَّ الأدبَ يخلق واقعاً، وإلاّ فما هو أدب على الإطلاق»: «إلى اين وصلتَ في بحثكَ عن ابيك؟ «أوشكتُ على اليأس من العثور عليه!». والسرد مرآة واقعٍ قلقٍ، ووطن لا وجود، وحياة متاهة ومواطن وهمٌ ومسخٌ، حين يضطرب هوية، ووجوداً، وفكراً، و(الوطن) و(الأب) و(الراوي) معاً حالة فقدٍ وضياع ويبدو «العالم في لحظةٍ مشكوك بهِ جداً» كما يعبّر كازو اشيجيرو.. وكيف يبدون هم على تربة يرتع في حقولها وخيرها المستعمرون، يلوثون حليب أصالتها، ورسائل (الأب - الوطن) الغائب للسكرتير الثاني في السفارة البحرينية في بيروت تقول الكثير مما هو جارح ومؤلم، ومفضٍ إلى المزيد من الضياع والمتاهات واللاوجود.. والمحتل البريطاني بكامل صحته وغطرسته ونفوذه وخُبثهِ، ، و«الجراح» عامل البلدية، والبوليس، والزمن الخؤون، كلّ هؤلاء صورة قاتمة لوطنٍ محتل مصادر، ، ومواطن مغيّب، يقاسي ويلاتِ وعذاباتِ المستعمر، والكاتبُ ببراعة يصهر الحلمَ بالواقع، إذ لا يغيب في هذا الخليط البديع من الواقع والحلم معاناة المواطن، فقد، وقهر، وظلم، وضياع، ولا شيء، وكأنهُ يصرخُ مع بطل كارلوس فوينتس في (الغرنغو العجوز): «إنّنا ما زلنا لاشيء ولا أحد»!!. ولكنّ بذرة الرفض والتمرّد جيناتُ المكان، حسب قراءة حالمة لنزيف جرح الوطن، رسائل الأب الغائبة: «وفي يوم الثلاثاء 13 مارس أحرق الشعب سيارة في فريق النعيم، وضربَ صاحب السيارة وهو إنجليزي ضرباً مبرحاً، وسدّت جميع الشوارع في المنامة بالحجارة والصناديق الفارغة، منعاً لمرور سيارات البوليس». والواقع الذي بدا حُلماً شفّافاً آسراً بهيجاً، هو ذلك النبض العروبي القوميّ الصاخب الإيقاع، ما بقي في جسد المواطن العربي البحريني من فيتامين الحماس والانتماء، شارة رفض للمستعمر، وانتماء أكثر صخباً وجنوناً للوطن، الأرض، الأمّ: «وخرج المستعمرين الأنذال من أرض الأمّة العربية، أرض الكنانة أرض مصر، مصر الخالدة التي سترفع من قدرنا أمامَ العالم أجمع». و«كنت على شكل هيكل بدون روح، هيكل في البحرين التي هي جزء من مصر، وقلبي وعقلي وروحي في مصر، ومع إخواننا العرب، وشعب بورسعيد المجيد الخالد». الوطنُ كلمة ذات كبرياء..!! مساحة دافئة، خضراء في القلب، وليس جغرافيا وتضاريس، وخريطة وراية وناس، وحين يضحي لا وطن، صحراء حجرية، غادرها الطير والشجر والمطر، وشُيّع الأمان فيها إلى مثواه الأخير.. مستعمرة إنجليزية، يعدّ أيامه النحسات الباقيات على كرسيٍّ صدئ، والمواطن بلا اسم، فالحياة والربيع والوجود والفرح رهن الاعتقال حتى إشعارٍ آخر: «يا أخي لاتحزن على شيء في هذا البلد.. البلد الذي لا قانون فيه، نحن كلنا معرضون للسجن والطرد والتشريد على يدِ الإنجليز». وطنٌ في ذمة الغياب، ومواطن لا أحد، نهب تفاصيل الحلم، الكابوس، تداعيات واقع قاسٍ ممتدّ، حيث تتداخل الأزمنة والأمكنة، و«الزمكان» بتقنية السرد المتقن، سينما الرعب من إنتاج «دواعش» الماضي والحاضر: «رأيت نفسي في الحلم أرتجف من الخوف، وقد أوثقوا يدي خلف ظهري، وتجمّد الدم في وجهي ذعراً، عيناي قد عصبتا بعصابة بيضاء، والدم ينزف من جرح في الجزء الأيسر من رأسي.. يقترب مني رجلٌ ضخم بلباس عسكري، يغطي وجهه بقلنسوة سوداء.. بدأ في ذبحي من الوريد إلى الوريد، أصرخ بأعلى صوتي، فيطلق الرجل صيحة (الله أكبر) ثلاث مرات». في السرد الفانتازي «لغة تتخطى الواقع إلى المتخيّل» يقولُ تودروف وفي السرد الفانتازي العجائبيّ، ومن خلال الحُلم يبدو «كلّ شيءٍ محض استعارة» بتعبير نيتشه.. والراوي (ع) متورّط في حُلمهِ وفي نفسهِ معاً، حيث تستحيلُ الكلمات لحظتها إلى أمرٍ مرعبٍ، مفضٍ إلى موتٍ بطيء.. ولا نهاية للحُلم! يُعتقلُ الراوي، الحالمُ من جهةٍ مجهولة، ولكنّها في سلوكها، وأخلاقها المتدنية هي أقربُ إلى «الموساد»، حين يطل مرة أخرى وجه «ليليث»، ولا تهمة توجّه للراوي إلا ملامحه العربية، وبقراءةٍ لواقع النظام العالمي الجديد، وسخاء العولمة، واكسسوارات فكر منظريها، فنحنُ متهمون حتى ونحنُ في أرحام أمهاتنا: «هذا ملفك، بهِ كافة المعلومات عنك، إنما ينقصنا بعض الإجابات عن أسئلة معينة، تحتاجُ إلى تعاونك معنا». والراوي بلا تهمة..! ذكرني بالمأزق الذي وقع فيه بطل، فاضل العزاوي في رائعته «القلعة الخامسة» صورة سوداء لعراق السبعينات، حيث تمّ إلقاء القبض عليه في مقهى مشبوه، ليطفيء ظمأ شهوة، لادخل لهُ في السياسة أبداً، وحين وجدَ رجال الأمن أنفسهم متورّطين، لابدّ أن يجدوا لهُ تهمة، فاقترحوا عليه شتيمة رئيس الجمهورية.. فرضي بأي تهمة أخلاقية إلا هذهِ! كذلك الراوي (ع) وقد وجد نفسه في «اللمبو» المكان ما بين الحياة والموت، وفق فضاء رواية «كافكا على الشاطئ» لهاروكي موراكامي أو في «باردو» وهو مكان ما بين الحياة والموت أيضاً في التعاليم البوذية: «كنتُ مهدود القوى، خائر العزيمة، وتراءى لي أنني لن أفلتَ من الموت». و:«أحكِ لي، ولا تتعابث معي، وإلاّ عفّرتُ الأرضَ بكَ». هو الموتُ في أقسى أنواعهِ، وحياة علقم، نوبات قلقٍ، وطن مصادر، ومواطن لا أحد.. لا شيء، وكيمياء حلمٍ كابوسيّ: «لمْ أصدّقْ نفسي عندما اكتشفتُ أني جالسٌ على مقعدي في الطائرة». وهكذا فأنَ أحلام الراوي (ع) إسقاط على واقع مُقلِق، ليست كأحلام (كوشن) بطل (الحلم والأوباش) لـ «مويان» وهي تنتهي إلى واقع حقيقي مريب مُذهل ومستفز، ومبعث لأسئلة محيرة. «يُقالُ إنَّ المدنَ كلّها موبوءة، وأنَّ المرضَ انتشرَ في كلّ مكانٍ، وأصبحَ خارجَ السيطرة». ومادام «الإنسان مجرّد حُلمٍ أو خيال» برؤى نيكي ما إناجو.. فإنَّ الحلمَ أضحى واقعاً مركزاً، المرضُ هدية المستعمرين إلى الشعوب الضعيفة المضطهدة المستعمرة: «قيلَ إنَّ أكثر من ألف إنسان يموتون في اليوم الواحد، ولم يعُد أحد يستطيع عدّ الموتى وحصرهم، أو يهتم بِمَنْ مات، الأهمّ هو كيف يُمكن البقاء في ظل هذا الوباء المحيق». والواقع في عين الراوي الحالم خليط من الفانتازيا والحكي الخرافي الموجع والخيال العلمي، والسرد فنّ لعبة خيال خطرة، ولعبة كلمات، والخيال في السرد: «بوسعه أن يسري في تعاطف وجداني إلى داخل أي صورة من صور الحياة» كما يرى كيتس. «الذينَ بحثوا في أسباب الوباء قالوا إنَّ اقتران كوكب زُحل والمشتري والمريخ أثار وباءً عظيماً في الهواء، لاسيما عندما يحدث في برجٍ فلكي دافيء ورطب». وإذا ما سُرِقَ الوطنُ والناسُ نيام، مكتفين بأعراض أمراضهم المتعددة المجهولة المصدر والسبب، فإنَّ قلبَ الأرض ينبض، وهي لا تنام، ولا يغمضُ جفن شجرها وجبالها وأنهارها، وإذا ما بدا صيامها صمتاً، فإنَّ إفطارها تمرّد ورفض، وهو بعض عقاب الأرض الضروري لمواطنيها الخانعين، مطأطأي الرؤوس، وثورة الأرض لكبريائها هو إيعاز من الخالق العظيم أول محارب للفساد الإنساني فوق الأرض: «البعض قال إنَّ الهزات في الأرض أحدثت شقوقاً في سطح الكرة الأرضية، وأطلقت أبخرة سامة أفسدت الهواء، أمّأ عامة الناس فقد رأوا الوباء غضباً من الله على عبادهِ الكفّار الظالمين الذين يعيثون في الأرض فساداً». والواقع والحياة بعدسة الرواي، الكاتب بدت صورة مرئية، لحظات انتقال السرد من (النصّ المكتوب) إلى (النصّ البصري)، لقطات فزع وخوف من سينما المكان المُستعمَر المرعب، صورة قاتمة سوداء من تواريخ القرون الوسطى، حيث الفساد والمرض والفقر والجوع.. حياة رثّة بائسة، لاقيمة للإنسان المقهور، والسماء الرحيمة تفيض لأجله دموعاً ومزامير وأدعية: «في هذه العربات ترى الغني والفقير، الحرّ والعبد، الشيخ والصبي، الملاك والشيطان، كلّهم سواسية في حضرة الموت، لاكرامة ولا اعتبار لحدٍ فوق عربة نقل الأموات». وفي حُلم، الراوي حدسُ وهواجسُ بطل هرمان هسّه في رائعته «دميان» الذي «يغدو في الأحلام أكثر حيوية مما في الواقع».. وقد صارَ الراوي كتلة حميمية وحنان على ما بقي لهُ من رغيف الألفة «ابنته».. والحنان في تعريف شاعر الهايكو الياباني: «شيء أقلّ عنفاً، وألطف، شيء لايصبرُ على قسوةٍ، نباشرهُ بسهولة، نوشك أن نهمله، ولكن إنْ افتقدناه يوماً، يحدثُ أنْ نهلك كما الأطفال الغار» هنري بروفل. ولا شيء يهزم هذه العاطفة، الحنان وليمة الأحاسيس، لا المستعمر، ولا القهر، ولا المرض وأسبابه العصية.. كل ذلك يعجز عن إطفاء براكين العاطفة والحنان في قلب الراوي على ابنته، ما بقي له من الوطن، الأرض، الأمّ بضة الثدي، بتعبير ساراماجو، وهي تتجرع مرارة كؤوس البلاء والموت. يقولُ شارس مورجان: «توجدُ في الحكايات الخرافية تلك المستودعات لحكمةِ البشرية»! وهل الحكاية الخرافية تنبيء بحقيقةٍ، وهي تعود بمرجعيتها إلى الموروث؟ أم أنها حماقة خيال؟؟ الفرحُ المؤجّل الذي يبدو انتظاره كما الصلاة الواجبة، لا يُربك أبجدية تسابيحها واستغفاراتها إلا الحكاية الخرافية المشبعة ببلاغة الموروث الشعبي، وهو يبدو بفقه السرد، وحكمة الرواية جزءاً من حياة الناس: «قالت جدّتي: إنْ ماتت أية سمكةٍ قبل اليوم الثالث عشر من أول شهر السنة الجديدة، سيكون فألاً سيئاً، وإنْ بقيت السمكات في قيد الحياة، واجتازت اليوم الثالث عشر المنحوس، فأنَّ هذه الأسرة لنْ تفقد عزيزاً خلال هذهِ السنة، هل تريد أن تفقدني يا (ع)؟». هناك ما يُسمّيه النقّاد بـ «الواقعية الخيالية» وهي بحسب توماس هاردي: «إعادة خلق الواقع، وإعادة تركيبه خيالياً».. والراوي (ع) الكاتب الحالم ومعدن روحه الحُلم، ينتقل بقارئهِ بكل وسائل الجذب والدهشة والمتعة، عبر لغة فاتنة، سكنه الدافيء، وطقوسها لعبة كلمات وخيال معاً، من الحكاية الخرافية إلى الموروث الشعبي إلى الأسطورة إلى الخيال العلمي إلى الفانتازي والعجائبي، عبر صوت الجرأة: «التخيُّل هو كلّ شيء» بتعبير هنري ميللر..! وعبد القادر عقيل كاتب الفانتازيا والعجائبي بامتياز!.. يريد بسردهِ سِفرَ كلماتٍ وخيالٍ، لقطات دهشة وجذب ومتعة، جوهر الجمال في السرد، وتطهير للنفس من أزمات خانقة لواقع قهري معيش.. وفنيّا إثارة المزيد من الخيال.. المزيد من التأمّل، وبراعة في مزج الزمن الحاضر بالزمن الواقعي والزمن الخيالي: «دخل إبليس على (الضحاك) ذات يوم، وطلب أن يُقبّل منكبيه، فظهرت دمّلتان في منكبيه على شكل ثعبانين». في رواية «ليلة البلّور» تستحيلُ الكلمات المنتزعة من المستحيل إلى أمرٍ مفزعٍ مرعبٍ، الراوي (ع) فريسة مرضٍ مزمنٍ، لاتبدو أيّ روشتة حاملة العلاج غير موسيقا الأحلام، وهي تُعزف صاخبة، والمرض يتحوّل من الهستيريا والجنون وحالات الموت البطيء إلى مزمن وخطير إلى (الاضطراب الثنائي القطب) كما يُسمّيه الأطباء النفسانيون، وتعريفه: (نوعٌ من الاضطراب النفسي الذي يسبب تقلبات مزاجية شديدة )! «حالته يا بني تزداد سوءاً، أخشى أن يؤذي نفسه، هذا الصباح كان ينظر إلى صورته في المرآة مرتبكاً وخائفاً، فجأة بدأ يصرخ بأعلى صوته قائلاً: أنت إنسان حقير، تافه، وأنا أكرهك، ثم أصبح هائجاً جدّاً، وبدأ في كسر الأواني ورمي الأثاث». وما يمرّ بهِ الراوي، ويعيشه حسب فقهِ السرد، ونظر الآخرين المحيطين به، هي أعراض هذا المرض الخطير: «لمْ يعُد ينام، يغمض عينه لعشر دقائق، لا يستقر على حالٍ حتى وهو نائم، ثمّ ينهض فزعاً من نومهِ، وتبدأ عنده الهلاوس بعد الساعة الحادية عشرة إلى الصباح». هي حالة هوس سيكلوجي، هستيريا، جنون، شكّ، مزاج متقلب، لا تبدو غير حالة رفض للواقع المعيش، بل هي صورتهُ البصرية الدقيقة في الواقع، الحُلم: «صحوتُ من نومي، وأنا أشعر بشيء غريب في نصف وجهي الأيسر، لكنني لمْ أنتبه إلا حين رأيت في المرآة وجهي ينحرف ناحية اليمين عندما أتكلم، وعيناي تتحركان من هنا إلى هناك، كما لو أنَّ شعرة مؤذية دخلت فيها، المهم أن الطبيب قال إنني مصاب بالشلل في العصب السابع». الراوي (ع) الذات، الكاتبة، الباحثة عن ذاتها المتشظية لحظات عدم، ووهم، ولا شيء! وعبر (الواقع – الحلم) أو (الحلم – الواقع) تتسرّب الحياة بمباهجها ومفارقاتها من بين أصابعهِ، وقد بدا مخلوقاً أثيرياً، لامنقذ لهُ، ولا شفاء إلا الخيال.. إلا الكلمات: «انخرطت في حلمي بأن أصنع بالكلمات ماكان يصنعهُ بابلو بيكاسو بالرسم، أو ما كان يصنعهُ أرباب الجاز بالموسيقا» طبقاً لتعبير كورت فوينغوت.. بعد ذلك كل شيء باطل وقبض ريح..!! «جلستُ وحيداً في العدم، كغيمةٍ تعوم في اللاشيء.. خطرت ببالي فكرة وقلتُ لنفسي: (سأفعلُ شيئاً ما)..». الكاتب الكبير عبدالقادر عقيل في روايته «ليلة البلّور»، ومُجموع سردهِ يُؤسّس للكاتبة الحُلم، بلْ ويمزج بين الحلم والواقع، وتلك معجزة جمالية، كما يرى كافكا..!!
مشاركة :