استعاد النظام السوري السيطرة على مدينة درعا ورفع علمه فوق مكتب البريد في درعا البلد في صورة شديدة الرمزية تتكثف فيها القصة التراجيدية للثورة السورية التي انطلقت عام 2011 من مدينة درعا: إعلان هزيمة الثورة السورية من مهدها، حتى أكثر المتفائلين باستمرار النظام السوري وبقدرته على الصمود في وجه ثورة شعبية لم يتوقع أن يعود النظام بكامل نفوذه ليسيطر على كافة مناطق الثورة وليطفئ شرارتها الأولى. هُزمت الثورة السورية ولكن النظام لم يحقق الانتصار، إذ لا تزال مناطق شاسعة من البلاد، تقدر بنحو 35 في المئة من المساحة الإجمالية، خارج سيطرته. تحكم مجموعات متفرقة من المعارضة السورية المسلحة برعاية تركية قبضتها على نحو عشرة بالمئة من مساحة البلاد من خلال تواجدها في مناطق في شمال سوريا. لكن الجزء الأكبر والأهم الخارج عن سيطرة بشار الأسد هو ذلك الخاضع لسيطرة القوات الكردية ويشكل نحو 25 في المئة من مساحة البلاد. وتعتبر تلك المناطق استراتيجية في حسابات النظام السوري، أولا لأنها تشكل ثلث مساحة البلاد، وثانيا لكونها مناطق حدودية مع تركيا والعراق، وثالثا بسبب غناها بالثروات الطبيعية النفطية والغازية فضلا عن الموارد الزراعية. يكتسب العامل الثالث أهمية خاصة إذ تعاني الحكومة السورية من نقص حاد في الموارد ومن اعتماد شبه كامل على الدعم الخارجي، وهو ما يجعلها بأمس الحاجة إلى السيطرة على المناطق الغنية بالموارد الطبيعية. وقد دفعت تلك الحاجة النظام السوري إلى إطلاق تهديدات مستمرة ضد قوات سوريا الديمقراطية وإعلان عزمه استعادة المناطق التي تسيطر عليها بالسلم أو بالحرب، كما قال رئيس النظام بشار الأسد، بل إن الأخير لم يتردد في اتهام قوات سوريا الديمقراطية بـ”الخيانة” بسبب تحالفها مع قوات أجنبية هي القوات الأميركية. ويعتبر تواجد القوات الأميركية في مناطق سيطرة الأكراد، والذي توسع منذ العام الماضي ليشمل قواعد ومطارات عسكرية ونحو ألفي جندي أميركي، السبب الوحيد الذي يمنع قوات النظام السوري من مهاجمة تلك المناطق بهدف استرجاعها. وفي حين بدت قوات سوريا الديمقراطية في الماضي عنيدة في تمسكها بالمناطق التي انتزعتها خلال السنوات الماضية، تبدو اليوم في عدم يقين ينبع من انتهاء الحرب، وهو ما يعني تفرغ النظام السوري لها، فضلا عن تراجع ثقتها بحليفها الوحيد، الإدارة الأميركية، وتعزز الظروف المحيطة بقوات سوريا الديمقراطية من حالة عدم اليقين حيث تبدو وكأنها تسير عكس التيار. في الجهة المقابلة هنالك أعداء كثر يمتدون من النظام السوري إلى إيران وروسيا، وصولا إلى تركيا والسكان العرب الذين يعيشون في مناطق سيطرتها ويشكلون أغلبية. دفعت كل تلك العوامل قوات سوريا الديمقراطية إلى إجراء محادثات مع النظام السوري تقول إن هدفها ليس الانفصال، إنما الحصول على منطقة إدارة ذاتية مقابل السماح لموظفي النظام السوري بإدارة معظم المناطق التي تخضع لها في الوقت الحالي. لم تكن قوات سوريا الديمقراطية لتقبل بعودة النظام السوري في العام الماضي، ولكن موازين القوى تغيرت بفعل التطورات المتسارعة التي ساهمت تلك القوات نفسها في حصولها. حفرت قوات سوريا الديمقراطية قبرها بيدها بعد أن عملت خلال السنوات الماضية على تدمير الشروط التي ساعدت على بروزها: الثورة السورية وتنظيم داعش. توسعت هيمنة القوات الكردية بسبب الثورة السورية التي وضعت النظام السوري أمام خيارات مصيرية ودفعته إلى تقليص تواجده في مناطق واسعة من البلاد ليتمكن من الدفاع عما اعتبره سوريا المفيدة في ذلك الوقت. هكذا قرر النظام السوري الانسحاب من المناطق الكردية وتركها هدية للاتحاد الديمقراطي الكردي الذي أسس ميليشيات عسكرية بدعم من حزب العمال الكردستاني. العامل الثاني الذي ساعد على بروز الميليشيات الكردية كقوة مهيمنة في الشمال كان نشوء تنظيم داعش وما تبعه من حرب دولية بقيادة الولايات المتحدة على التنظيم. في تلك الفترة اشتد ساعد قوات سوريا الديمقراطية بسبب مشاركتها في الحرب على داعش مع أميركا، وفي الحرب على الثورة السورية مع روسيا والنظام السوري. وظنت أنها تلعب على التناقضات ولكنها كانت تحفر قبرها. وقريبا إن لم يكن للإدارة الأميركية رأي آخر، سوف تحين ساعة الدفن.
مشاركة :