هناك قناعة في العديد من الدول الغربية، وحتى في بعض الدول العربية أن السجون أضحت جامعات إرهابية فعلية، حيث يلعب الراديكاليون المخضرمون دور الأساتذة، ويكون فيها السجناء طلابًا؛ ومعنى هذا الكلام أن السجون بدورها لا تسلم من أمراض الذهان والمتطرفين وأصحاب الغلو، وأن وضع مراقبات دائمة لتحصين من سلموا من هذه المصيبة الآزفة مسألة مصيرية... وبمعنى آخر فإنه لا يكفي استئصال الإرهابيين والسفاكين الملوثة عقولهم وقلوبهم، محبي الدماء وقطع الرؤوس فحسب، بل لا بد من التأثير على عقول البشر حتى في السجون، ولا بد من تدخل الدول لتنظيم الوعظ والإرشاد المبنيين على الوسطية والاعتدال. وهنا دور العلماء الذين يجب أن يجندوا لهذا العمل لكي لا يتركوا الساحة فارغة يملؤها أصحاب الغلو والمتطرفون.... وفي رأيي حتى هؤلاء المتطرفين يجب مناظرتهم في السجون من طرف علماء أكفاء... فالإرهابيون عقولهم مشوشة، وقادتهم كما يكتب المستشار محمد سعيد العشماوي يقدمون فهمهم من منهج الدعاية لا العلم، وبأسلوب الإلحاح لا الإقناع، وبطريق التوكيد دون ما تدليل أو نقاش أو نقد. وهم لا يسمحون لأنفسهم - حتى لا يهتزوا، ولا لأتباعهم - حتى لا يهربوا، ولا لخصومهم - حتى لا ينتصروا، بأن يناقشوا هذا الفهم بالعقل والمنطق، أو يقرأوا أي فهم غيره، أو يطلعوا على أي فكر سواه، أو يتبعوا أي منهج خلافه، لأن ذلك - إن حدث - لابد أن يكشف ما في فهمهم من قصور وما في أسلوبهم من عوار؛ ومن ثم فهم يعادون أي فكر غير فكرهم (الذي يسمى فكرًا من قبيل التجاوز)، ويرفضون أي منطق سوى منطقهم (الذي يعد منطقًا من حيث الجدل)، ويأبون أي حجة ما لم تكن حجتهم هم. لذلك فهم لا يردون بالمنطق العام بل الشائعات، ولا يجادلون بالحسنى بل يرفعون على الدوام عصا التهديد وسلاح الاغتيال، ولا يواجهون بالعفو والتسامح بل بالعنف والعدوان. وهم يكذبون ويتهمون غيرهم بالكذب، يحرفون ويتهمون غيرهم بالتحريف، يزيفون ويتهمون غيرهم بالتزييف، لسان حالهم العاثر يقول: من ليس معنا فهو علينا، ومن لم يتبع منطقنا فلا منطق له، ومن لا يؤمن بأهدافنا فهو آثم باغ، ومن يقف في طريقنا فهو كافر مرتد. وكل من درس أو قرأ في الطب النفسي يعرف أن من خصائص مرض الذهان أن يلجأ المصاب به إلى الإفراط في المنطقة والتوكيد؛ لكنه يجنح في ذلك إلى منطقه الخاص لا إلى المنطق العام؛ ومن ثم فهو يعيش في حالة من الفصام بينه وبين الحياالسوية السليمة الواقعية. إن المنظومة التربوية والتعليمية والتكوينية في مجتمعاتنا أفرزت مثل هذه الفيروسات الخطيرة... فلا بد كما سبق وأن كتبنا مرارًا في صحيفة الجزيرة الغراء أن تقوم منظومتنا التربوية في العالم العربي والإسلامي بزرع المبادئ والقواعد الدينية السمحة في أفئدة وعقول الناشئة منذ صغر سنهم، وتزيل عنهم الطغيان في التعصب الديني والتنازع والفرقة والاختلاف، وتشرح لهم خطورة الفهم الحرفي والسطحي والجزئي المتوجس من المقاصد الضابطة لبوصلة النص والحكم الشرعيين، ولماذا لا نزرع فيهم الرؤية المقاصدية الصحيحة التي تعاني من غلوين، غلو معطلة المقاصد باسم النصوص وغلو معطلة النصوص باسم المقاصد، ثم لماذا لا نرتب في أذهانهم منطق الأولويات: الأصول قبل الفروع، الكلي قبل الجزئي، المسالم قبل المحارب وغير ذلك؛ ولماذا لا نحارب في أذهانهم الجهل بأحكام الشرع وأصوله وقواعده ومقاصده السمحة ونعطيهم رؤية شمولية للنصوص والمعالجة المنهجية للأحكام، وهي مسائل يمكن أن ندرسها لمن سيصبح أستاذًا أو طبيبًا أو مهندسًا أو نجارًا أو حدادًا ولأدمجناه بذلك إدماجًا صحيحًا في مجتمعه ولقضينا على سيكولوجية الإنسان المقهور المطعم بأفكار وقناعات دينية ضالة ومضلة... فالمستوى الثقافي عند الداعشيين محدود ومضل وخطير، ينزعون النصوص من سياقها ويسيئون فهم مناطق استعمال القوة في القرآن الكريم ويخلطون مرحلة الدعوة بمرحلة الدولة ويخلطون بين الوعيد الإلهي والمعاملة البشرية ويخلطون الحق بالصواب فتتكون عندهم لا شعوريًا عقلية عسكراتية.... وأضيف إلى هذا الكلام أنه ليس فقط الناشئة الذين يجب أن نستثمر فيهم كل قوانا لإبعادهم من معسكر التطرف والغلو وقبول الآخر واستعمال العنف بل وحتى السجناء والذين بلغوا سن الرشد، إذ يجب مقاومتهم فكريًا وعلميًا ودينيًا وأمنيًا، وهي مكونات للقاح واحد....
مشاركة :