الأقلية الإسلامية في صقلية وصراع الهويات

  • 7/28/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يعد كتاب «الأقلية الإسلامية في صقلية بين الاندماج والصدام وصراع الهوية- 484- 591ه-هـ / 1091- 1194م» للأكاديمي المغربي إبراهيم القادري بوتشيش إنجازاً مهماً في حقل دراسة الأقليات. والكتاب الصادر عن «المجموعة المغاربية للدراسات التاريخية» في مكناس، بالتعاون مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية، في جامعة مولاي إسماعيل، ينطوي على تجربة رائدة في دراسة الأقليات الإسلامية في أوروبا خلال العصر الوسيط، ويطرح قضية «الأنا» الخاضع لسلطة «الآخر». استطاع المؤلف تتبع تشكيل الخريطة الإثنية والبشرية لصقلية في سياقها التاريخي، معتمداً على نصوص الجغرافيين والرحالة المسلمين، كابن حوقل وابن جبير، ونصوص الحوليات التاريخية، إضافة إلى النوازل الفقهية، خلال الحقبة موضوع الدراسة. وأطلعنا الباحث على البنية القبلية لمسلمي جزيرة صقلية، والمتمثلة في القبائل العربية والأمازيغية، مشيراً في ظل سرد الأحداث التاريخية إلى تحركات هذه الجماعات البشرية في سياق موضوع الهجرة وتوزيع السكان على جغرافية صقلية، وكذلك الفترات الزمنية لهذه الهجرات وأنواعها؛ سواء كانت اختيارية، أو اضطرارية، أو قهرية؛ من الجزيرة وإليها في ارتباط بما تعرضت له صقلية من اعتداءات، أو ما خاضه حكامُها الجدد من النورمان مِن معارك، بخاصة في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط. وترتّبت على ذلك خلخلة في البنية الإثنية لمسلمي صقلية على مستوى تزايد عدد سكانها أو تناقصه. ورصد الباحث نوعية المهاجرين من الجزيرة وإليها سواء على مستوى وضعهم الاجتماعي مثل النخبة العلمية من فقهاء وأدباء وشعراء، أو على مستوى مقاربة النوع من خلال تهجير نساء أسرى الحروب والمعارك من شمال المغرب الكبير، وبخاصة من أفريقيا في اتجاه صقلية. كما سلّط المؤلف الضوء على بقية الإثنيات والاتجاهات الدينية التي كانت تتعايش في صقلية كاليهود والنصارى، وكذلك الإثنيات التي حلّت في حقبة ما بعد السيطرة الإسلامية، وتمثلت في المحتلين الجدد من النورمانديين، وكذلك بعض الوافدين من إيطاليا وفرنسا، والبلقان واليونان وبلغاريا، فضلاً عن السلافيين. ويأتي الحديث عن الإثنيات في سياق البحث عن العوامل التي أدت إلى تحول المسلمين من قوة عددية إلى أقلية في إطار إعادة تعمير الحكام الجدد من النورمانديين لجزيرة صقلية من أجل السيطرة على مختلف مدنها وقراها؛ ما دفع مسلمي الجزيرة إلى التفكير في الهجرة ومغادرة البلاد، بحثاً عن أفق آمن وجدوه في بلدان الغرب الإسلامي في الأندلس أو المغرب الأقصى وإفريقيا، في حين وجد آخرون ضالَتهم في بعض بلاد المشرق مثل مصر. وتناول الباحث التشكيلة الاجتماعية للأقلية الإسلامية في صقلية في ظل الحكم النورماندي وأشار إلى مكانتهم في هرم السلطة المركزية، ودورهم في البلاط النورماندي، فكانوا بمنزلة وزراء، وتمت الإشارة إلى بعض النخب العلمية مثل الشريف الإدريسي، وكذلك أهمية فئات العبيد الذين على رغم دورهم الأساسي في تدبير المهمات الصعبة في البلاط، لم يحظوا باعتراف السلطة النورماندية بخدماتهم؛ فقد كانوا محرومين من أبسط حقوقهم في ممارسة شعائرهم الدينية، بل لم يسمح لهم بالاحتفاظ بأسمائهم الإسلامية. وتحول المسلمون إلى أقنان في ظل سيطرة الأسياد الإقطاعيين بعد مصادرة أراضي الأقلية الإسلامية في بادية صقلية وأريافها، وأصبحوا مطالبين بأداء ضرائب سنوية عينية من مداخيل الأراضي الزراعية، كما تم إجبارهم على أداء الخدمة العسكرية، في حين تعرّض بعض المسلمين الآخرين، بخاصة مَن وقع في الأسر، إلى الاسترقاق عند ملاك الأراضي أو في خدمة الكنائس. وتوقف الكاتب عند بعض العادات والتقاليد التي حافظت عليها الأقلية الإسلامية في ظل سلطة النورمان، وكذلك القيم التي تعرضت للطمس لتحل محلها قيم أخرى تحت تأثير التحولات الاجتماعية في ظل المشهد الديني والإثني الذي عرفته صقلية إثر إعادة تعميرها في ظل الحكم النورماندي منذ نهاية القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. واستمرت الطقوس الدينية من خلال الحفاظ على أداء الصلوات الخمس، وصيام رمضان، إلى جانب ممارسة الطقوس الاحتفالية التي ترتبط بالموروث الثقافي الإسلامي لعهود سابقة، مع احتفاظ الناس بقيمتي الكرم والسخاء. كما أن الطقوس الاحتفالية والدينية منها بخاصة لم تبق حبيسة الأقلية الإسلامية، بل امتد تأثيرها ليعمّ بقية فئات المجتمع غير المسلم، إلى درجة أنها شملت عادات الأكل وطريقة اللباس والزينة عند النساء، بل وصل هذا التأثير إلى أقصى مداه عندما لجأ بعض جواري القصر من المسيحيات إلى اعتناق الديانة الإسلامية. كما كشف المؤلف عن وجود صورة أخرى خلخلت بنية الأسرة المسلمة وهددت بتفكيك عناصرها من خلال تراجع السلطة الأبوية، وفقدان الاحترام الذي كانت تنعم به الأسرة في ظل الحكم الإسلامي، إلى درجة بدأ فيها الأبناء يهددون الأب بالتنصر والذهاب إلى الكنيسة في حال رفضه تلبية طلباتهم. ورصد المؤلف مواقف الحكام النورمانديين المتناقضة أحياناً في تعاملهم مع الشأن الديني المرتبط بالأقلية الإسلامية، والإكراهات التي كانت تؤطر هذه السياسة الدينية لصقلية النورماندية، سواء منها ما كان يرتبط بضغط المؤسسة الكنسية (البابوية) ومحاولة عدم الرضوخ لتعليماتها، أو ما يتعلق منها بمحاولة تجنب التهديدات المسيحية المرتبطة بالدولة البيزنطية. بالإضافة إلى تلك الرغبة في الاستفادة من تجارة البحر الأبيض المتوسط التي كانت تفرض على الدولة النورماندية بالضرورة إقامة علاقات ودية بالدول الإسلامية في الضفة الجنوبية للمتوسط، ممثلة ببلدان المغرب الكبير. وأبرزَ المؤلف تجليات اندماج الأقلية الإسلامية في نسيج المجتمع الصقلي، من خلال رصد حضورها في محطات عدة، تتجلى من خلالها مساهماتها المهمة في تنميته. كما أوقفَنا المؤلف على السياق التاريخي وظرفية الإبداع الإسلامي في صقلية من خلال الدور الذي اضطلع به الملوك النورمان الذين تميزوا بثقافتهم وحبهم للعلم والمعرفة بخاصة روجر الثاني الذي جمع في اهتماماته بين الرياضيات والجغرافيا. هذا إلى جانب مناخ الحرية والتعددية اللغوية التي ميّزت صقلية في ظل الحكم النورماندي؛ ما يفسر المشاركة المتميزة لمسلمي صقلية في النهضة الثقافية في هذه الجزيرة، والتي هيمنت على مشهدها غلبة العلوم الطبيعية. ومثّل الإنتاج الجغرافي والنباتي للشريف الإدريسي محطة مهمة في هذا التراكم المعرفي للأقلية الإسلامية في صقلية في ظل السلطة النورماندية. ولم يقتصر دور تلك الأقلية على مجال الصناعات التقنية والهندسية، بل تعداه إلى تطوير المؤسسات الإدارية والعسكرية. يقدم الكتاب نموذجاً لبناء دولة وسيطية في الضفة الشمالية للبحر المتوسط، حاولت ما أمكن تدبير الاختلاف الديني والإثني واللغوي في فترة زمنية تميزت بالصراع الإيديولوجي وانتشار الحروب الصليبية، وبظهور سياسة خارجية يطبعها الترقب والحذر، سواء بين القوى الإسلامية والدول المسيحية، أو بين طرفي الأخيرة من البيزنطيين والنورمان.

مشاركة :