واشنطن - اتهمت الولايات المتحدة الأميركية في الأسابيع القليلة الماضية ماريا بوتينا، وهي فتاة روسية درست في جامعات واشنطن، بالتآمر على الأمن القومي الأميركي بدفع من سلطات موسكو وتحديدا الكرملين الذي يعدّ أحد أهم الهياكل التي أحكم بفضلها بوتين قبضته على الحكم في روسيا وربما مستقبلا في العالم بأسره. ولئن نفت موسكو عقب عملية الاعتقال توظيفها في أي فترة من الفترات للشابة بوتينا في أجندات جوسسة لفائدة الدولة الروسية على الأراضي الأميركية، أو من خلال تعلّلها بأن من يروجون لهذه الاتهامات يهدفون إلى تقويض نتائج قمة هلسنكي التاريخية التي جمعت ترامب وبوتين، إلا أن مسار تواجد المتهمة في واشنطن يؤكّد وفق كل العارفين بتحرّكاتها وسلوكياتها أنها منخرطة في سياسة بوتين، عميل الـ”كا.جي.بي” السابق، الذي يُسميه جزء كبير من الأميركيين بالجاسوس الأكبر. وتمسكت وزارة الخارجية الروسية على لسان المتحدثة باسمها ماريا زاخاروفا بأنه “يبدو أن هناك أحدا أخذ ساعة وآلة حاسبة لتحديد الموعد المناسب لاتخاذ هذا القرار حول اعتقال ماريا بوتينا لتقويض نتائج القمة بين الرئيسين الروسي والأميركي”. ويتطلّب مسار تبدّل العلاقات بين موسكو وواشنطن، في ظلّ تواصل الاتهامات الموجهة لبوتين باختراق الأمن القومي للولايات المتحدة عبر أجهزته السرية للجوسسة، عملية نبش في تاريخ وأهداف إقامة بوتينا في واشنطن أو سلسلة الأنشطة التي حضرت فيها وواكبتها. Thumbnail ومارينا بوتينا صاحبة الـ29 عاما، هي فتاة روسية درست في الجامعة الأميركية بواشنطن وهي مؤسسة لإحدى الجمعيات المناصرة للحق في حمل السلاح “رايت تو بير آرمز”. وبوتينا تنحدر من بارنول بسيبيريا وكثيرا ما تظهر بسلاح في اليد منددة بقوانين الأسلحة المتشددة في بلادها، وتوصف “بالوجه الممثل لحق حمل البندقية في روسيا”. وعقب اتهامها بالعمل مع اثنين من المواطنين الأميركيين ومسؤول روسي لم يُكشف عن هويته بهدف التأثير على السياسة الأميركية والتسلل لإحدى المنظمات المعنية بحقوق الإنسان بحسب ما ذكرته وزارة العدل الأميركي، فقد أصبحت بوتينا محل حديث تقارير صحافية دولية وخاصة أميركية، ليظهر أنه سبق وأن شاركت في تظاهرات مع “جمعية البندقية الوطنية” في أميركا، كما تلاحقها اتهامات أخرى من قبيل تنظيم حفلات عشاء في واشنطن بهدف تطوير علاقات مع سياسيين أميركيين وإقامة قنوات اتصال من أجل “اختراق موقع صناعة القرار الوطني الأميركي”. ولم يكن الحديث عن كشف مؤامرة بوتينا وتورّطها في خدمة أجندات الحكومة الروسية القائمة على الجوسسة، حدثا مفاجئا بالنسبة إلى جل الصحف والمؤسسات الإعلامية الأميركية التي أعادت نشر مقطع فيديو تم تصويره في عام 2015، أي قبل تنظيم الانتخابات الرئاسية، ظهر فيه ترامب وهو بصدد الإجابة على سؤال توجهت به له المتهمة بوتينا وكان فحواه مرتبطا بالاستفسار عمّا يفكر به ترامب إن فاز بالانتخابات على حساب كلينتون بشأن العلاقة مع روسيا وعما إذا كان يفكّر أيضا باستمرار نفس السياسة القائمة على فرض عقوبات متواترة ضدّ موسكو. وبحسب العشرات من التقارير الإعلامية الأميركية، فإن بوتينا نجحت خلال إقامتها في واشنطن في تطوير وتوطيد علاقاتها الممتدة مع أعضاء من الحزب الجمهوري خاصة بعد أن صارت تقريبا المحامية والمدافعة الأولى عن حق امتلاك السلاح. ورغم أن قضية بوتينا، تبدو منعزلة بصفة تامة عن التحقيق الذي يشرف عليه المحقق روبرت مولر بشأن تدخّل وانخراط أجهزة الرئيس الروسي السرية في عملية تجسّس خلال الانتخابات الرئاسية في عام 2016، إلا أن الكثير من الأميركيين يؤكّدون ويتهمون بوتينا بأنها كانت تقوم بأنشطة الجوسسة بناء على توجيهات من مسؤول رفيع المستوى في الكرملين. Thumbnail كل هذه الاتهامات أكدها الموظف الخاص في مكتب التحقيقات الفيدرالي كيفين هيلسون، الذي قال “إن مهمة بوتينا كانت استغلال العلاقات الشخصية مع السياسيين الأميركيين الذين لهم تأثير في السياسة الأميركية في محاولة منها لدفع مصالح الاتحاد الروسي”. وأضاف أنها تمكّنت من تفعيل أنشطتها دون تسجيلها لدى حكومة الولايات المتحدة، والحال أن القانون الأميركي ينصّ على وجوب تسجيل الوكلاء الأجانب على حد قول المدّعين العامين، علاوة إلى الكشف عن مساع لديها كانت ترمي إلى إنشاء قناة خلفية لممثلي الحكومة الروسية في الولايات المتحدة الأميركية. كما أكّد الادعاء العام الأميركي كل الروايات التي نشرتها الصحف في الولايات المتحدة بأن بوتينا كانت تحاول تطوير علاقاتها الشخصية مع السياسيين الأميركيين من ذوي النفوذ من أجل “تعزيز مصلحة” روسيا ولذلك لجأت إلى تنظيم فعاليات للتأثير على آراء المسؤولين الأميركيين بشأن توجهاتهم أو قناعاتهم السياسية الرافضة للدور الروسي في العديد من القضايا الدولية. ماريا بوتينا نجحت، خلال إقامتها في واشنطن في تطوير وتوطيد علاقاتها الممتدة مع أعضاء من الحزب الجمهوري خاصة بعد أن صارت تقريبا المحامية والمدافعة الأولى عن حق امتلاك السلاح كما كشفت التحقيقات الأولية، عقب اعتقال بوتينا أنها كشفت لمن يوظفها من مسؤولي الكرملين عن تقدّمها باستخدام رسائل تويتر مباشرة وبين عدة وسائل أخرى حاولت عبرها التجسس على الإدارة الأميركية أو على شخصيات سياسية نافدة. أما بشأن وجهة نظر الإدارة الروسية التي اشتد تضييق الخناق عليها في الأشهر الأخيرة من قبل دول الاتحاد الأوروبي أو الديمقراطيين في الولايات المتحدة عبر تواتر الحديث عن مشاركة الأجهزة الروسية في محاول اغتيال العميل سكريبال في بريطانيا أو التجسس على كلينتون من أجل خدمة مصالح ترامب، فيبدو أنها وفق الملاحظين أصبحت تتفنن في وجود التعلات، حيث تشير تقارير عدة إلى أن الحكومة الروسية جندت العشرات من المحامين للدفاع عن بوتينا. وقال روبرت دريسكول، المحامي الخاص للمتهمة في سياق ردود موسكو، إن موكلته ليست عميلة بل مجرد طالبة علاقات دولية تسعى إلى الاستفادة من شهادتها في مجال الأعمال التجارية. وأضاف أن الاتهامات “مبالغ فيها”، وأنه لم يكن هناك مؤشر على أن بوتينا تسعى للتأثير على أي سياسة أو قانون محدد أو الولايات المتحدة أو تقويضها. وأن موكلته تعاونت مع مختلف الجهات الحكومية لعدة أشهر حول هذه المزاعم. Thumbnail وعلاوة على مساهمة السيرة الذاتية لبوتنيا من خلال مراحل عيشها في واشنطن في فتح ملف اتهام وزارة العدل الأميركية لـ12 من ضباط المخابرات العسكرية الروسية بقرصنة البريد الإلكتروني لعدد من مسؤولي الحزب الديمقراطيين خلال الانتخابات الأميركية لعام 2016، فإن ملفها ساهم في التعريج مجدّدا على الأدوار الاستخباراتية لبوتين. وفي سياق تشبيه بوتينا ببوتين، ذكرت صحيفة واشنطن بوست أنها أصبحت مساعدا للمصرفي الروسي وعضو مجلس الدوما السابق ألكسندر تورشين الذي فرضت عليه عقوبات من قبل وزارة الخزانة الأميركية في أبريل الماضي. وكان تورشين، وهو عضو دائم في الجمعية الوطنية للبنادق وبوتينا، قد حضرا مناسبات الجمعية عام 2014. وأشار نفس التقرير إلى أن بوتينا كانت قد شاركت في حملات ترامب الانتخابية، وأنها سألته عن وجهة نظره حول العلاقات الخارجية مع روسيا. في حين كان رد ترامب أنه يمكن أن يتماشى مع بوتين حسب الظروف وتطورات الوضع العام في العلاقات الدولية. أمّا صحيفة ذا نيويوركر الأميركية فأشارت إلى أنها حبكت علاقات قوية مع أهم الشخصيات من المحافظين وبأهم الشخصيات التابعة للحزب الجمهوري. ويضيف التقرير أن بوتينا ليست سهلة بالمرة على اعتبار أنها قامت في ليلة انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة بمراسلة مديرها من الكرملين في روسيا لتقترح عليه التحدث على الهاتف، لمناقشة من الذي قد يرشحه ترامب ليكون وزيرا للخارجية. وكشفت الصحيفة استنادا إلى مراجع وزارة العدل أن مديرها ألكسندر تورشين، نائب محافظ البنك المركزي الروسي، رد عليها آنذاك “يتم التنصّت على جميع هواتفنا”، لتجيبه بوتينا “حسنا ماذا عن الحديث عبر الواتس آب” لتتم العملية بعيدا عن الأجهزة الرقابية الأميركية. Thumbnail وتشير التقارير إلى أن ماريا بوتينا كانت ربّما أول شخص يسأل دونالد ترامب بصفة علانية عن ماهية سياسته تجاه العقوبات الروسية إذا أصبح رئيسا. وتشير الكثير من جوانب فضيحة العميلة الروسية إلى أنها تمكّنت من اختراق أجهزة كمبيوتر حملة الحزب الديمقراطي، وبرنامج تويتر، والعديد من الأعمال المشبوهة الأخرى، إضافة إلى أن أحد أقرب مستشاري لدى ترامب كانت لديه شكوك حولها منذ الحملة. وفي نفس السياق المسلط الضوء على تحركات بوتينا منذ بداية الإقامة في واشنطن، كشفت تقارير أخرى مستقية من أجهزة أمنية واستخباراتية أميركية أن لديها صلات أخرى بمسؤولين أميركيين أكبر كثيرا مما يتم ترويجه. ومن ذلك حضورها في عام 2015 اجتماعين بين مسؤول روسي زائر ومسؤولين كبيرين في مجلس الاحتياطي الاتحادي الأميركي (البنك المركزي) ووزارة الخزانة. وكان الاجتماعان اللذان كشف عنهما أشخاص على دراية بالجلسات وتقرير لمؤسسة بحثية في واشنطن رتبت لهما، مع ستانلي فيشر نائب رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي آنذاك وناثان شيتس وكيل وزارة الخزانة للشؤون الدولية في ذلك الوقت. وفي أحدث تفاصيل القضية، طالب محامي بوتينا جهات التحقيق الأميركية بالإفراج عن موكلته، بدعوى أنها عرضت التعاون مع المحققين الأميركيين لاستهداف بول إريكسون، الناشط المحافظ الذي كانت تربطها به علاقة عاطفية، وفقا لرسالة صادرة عن محاميها وشهادة المحكمة في قضيتها. المرأة الجاسوسة.. خطة "وعاء العسل" تبقى دائما فعّالة هل هناك نساء بشخصيات مثل هذه في الحياة الواقعية؟ هل هناك نساء بشخصيات مثل هذه في الحياة الواقعية؟ واشنطن - سواء بالنسبة إلى عملاء سي.آي.إيه الحقيقيين أو أعوان 007 الخياليين ليس هناك من تكتيك في حرفة الجوسسة أكثر استدامة من “وعاء العسل” (في إشارة إلى استخدام المرأة الجاسوسة الجميلة). في العهد القديم رأينا كيف أطاحت حيل دليلة الأنثوية بشمشون، وفي ثمانينات القرن العشرين لدينا كلايتن لونتري جندي البحرية الأميركية الذي تعرض للابتزاز من فتاة سوفييتية جميلة، وتبقى الهولندية ماتا هاري أشهر جاسوسة في التاريخ، وانضمت حديثا إلى القائمة الطويلة من النساء الجاسوسات، الروسية ماريا بوتينا، التي تواجه تهما أميركية بالتجسس لصالح الكرملين. وتقول الكاتبة الصحافية الأميركية مونيكا هاسي في بحثها عن أسرار هذه الشابة ذات الشعر الأصهب التي نجحت في التغلغل في عمق المجتمع الأميركي الحساس، إن حسابها على موقع إنستغرام عبارة عن سلسلة من صور السيلفي تظهر القوة والأنوثة معا. كما تشارك أقوالا مأثورة ذات مسحة روحية من قبيل “الإيمان يجعل كل شيء ممكنا. والحب يجعلها سهلة”. وتنشر نداءات للرجال الوحيدين قائلة “أريد أن أحب شخصا قلبه محطم حتى يعرف بالضبط ما هو الشعور ولا يحطم قلبي”. لكن، يبقى اللافت صورها مع البنادق. صورة بعد صورة تحمل بوتينا أسلحة نارية بكل الأشكال والأحجام. هنا تلوح بمسدس وتلبس قبعة رعاة البقر، وهناك تنحني في الثلج وهي تضع بندقية على خنزير بري ميت. هل يتناسب التبرج النسائي المبالغ فيه مع الأسلحة نصف الآلية؟ على صفحة فيسبوك لماريا بوتينا تلك الأشياء تتناسب. وتقول مونيكا هاسي إنه سواء أكانت بوتينا بالفعل جاسوسة أم لا، الشيء الذي أصبح واضحا هو أنها كانت بارعة في كونها “النزوة الأميركية”. وبينما قضى المختصون في فترة الحرب الباردة الأسبوع الماضي يتحدثون كيف أن بوتينا تذكّر بجينيفر لورنس في قصة “الدوري الأحمر” أو كيري راسل في “الأميركيون”، فإن المرجع من الثقافة الشعبية الذي ظللت أفكر فيه هو وصف الكاتب جيليان لـ”فتاة مرحة”. كان هذا المفهوم موضوعا أساسيا في رواية فلاين “الفتاة التي انصرفت” التي هي نفسها بالأساس غوص عميق في العلاقة المعادلة لحرفة التجسس: الشخصيات التي تتقمصها النساء من أجل إرضاء الرجال. إذا كان هناك أخلاّء في حياة بوتينا أو مواعيد غرامية أو حفلات، فذلك لم يكن جزءا من شخصيتها على الإنترنت. في صورها تظهر دائما وحيدة، تماما مثل بيت معروض للبيع يترك عمدا خال من الأثاث حتى يتمكن المشترون المحتملون من تخيل أنفسهم يعيشون هناك. هل هناك نساء بشخصيات مثل هذه في الحياة الواقعية؟ ربما. لكن هل هناك تخمة من الطالبات الأوروبيات الشرقيات المتخرجات الذكيات جدا يتكلمن لغتين ويحببن المسيح والطبخ والبنادق وصيد الطرائد الكبيرة والويسكي وأحمر الشفاه ورعاة البقر وإصلاح قلوب الرجال المحطمة بحنان؟ ربما؟ كون بوتينا أصبحت مشهورة في الدوائر المحافظة بهذه السرعة يشير إلى الاتجاه الآخر: لا توجد الكثير من النساء (الحقيقيات) مثلها. وصفها مصدر مجهول التقى بها خلال مؤتمر العمل السياسي المحافظ بقوله “إنها ودية وفضولية ومغازلة”. الرجال الذين دافعوا عنها كانوا سعداء للقاء امرأة تتناسب مع القالب المثالي لكنهم لم يتوقفوا أبدا عن التفكير بأنها ربما تكون جاسوسا مثاليا. هذا هو السبب الذي يخوّل لخطة “وعاء العسل” الاستمرار في أن تكون ذات أهمية، وذلك لأنها ترتكز على نزوة تُربّت بحنان على الأنا، وهي شكل من أشكال العملة لن تفقد رواجها أبدا، وفق مونيكا هاسي.
مشاركة :