كل التطورات التى عرفتها العصور المختلفة منذ صُنع أول آلة حادة.. مرورا باختراع البنسلين والديناميت.. حتى تحول العالم إلى قرية صغيرة بفضل ثورة المعلومات جمعت بين طرفى العسل والسم.. حملت خدمات التطور فى يد، والدمار فى اليد الأخرى. ازدياد سرعة إيقاع التطور التكنولوجى وانتشاره قلب الوسائل التقليدية لتحقيق الأهداف- أيا كان طابعها- مثل «حشد الرأى العام نحو مسار محدد»، «إِثارة الشارع سلبا أو إيجابا».. ما يرتبط مباشرة بأحد أهم التحديات التى تواجهها مصر منذ عام 2013. الرئيس السيسى فى كل خطاباته، بحكم المكانة التى يمثلها منصب رئيس دولة بحجم مصر، بالإضافة إلى طبيعته التى تترفع عن التدنى فى اللفظ، تعمد عدم ذِكر الأطراف التى ربطت مصالحها بالعداء لمصر مباشرة.. يُشير إليهم اعتمادا على فطنة المواطن وسرعة التقاطه الرسالة المقصودة، خلال حفل تخرج طلاب الكليات والمعاهد العسكرية.. لم ترِد كلمة «شائعة» فى خطابه ارتجالا بعدما وصلت هذه الظاهرة الخطيرة إلى درجة العبث، خصوصا حين تتداولها شريحة من المنتظر أن تقف فى واجهة التصدى للمغزى العميق وراء تدفق هذا السيل من نهر «السموم».. قد يحتمل الأمر بعض الاعتبار إذا ما أثارت أجواء الشائعات ارتباكا بين شريحة البسطاء، رغم أن الأحداث والتغييرات التى عاشتها مصر خلال الثمانى سنوات الماضية أحدثت نقلة فى اهتمامات رجل الشارع وأكسبته «مناعة سياسية» ضد محاولات الخداع والالتفاف على إرادته. عبارة «جوبلز»، وزير الدعاية السياسية فى عهد هتلر «كلما سمِعت كلمة مثقف.. تحسست مسدسي» توارت أمام سباق التهافت على وسائل التواصل الاجتماعي، وأفقدت بعض من يُفترض انتماؤهم إلى شريحة المثقفين، من الكتاب، والإعلاميين، والصحفيين وغيرهم، الالتزام بطبيعة دورهم فى عدم الانسياق خلف كتائب إلكترونية فشل كل الزيف الذى مارسه القائمون عليها لفرض وجودهم السياسي، ولم يبق من سلسلة قائمة الهزائم التى توالت عليهم سوى إِشعال الفوضى بسلاح أكاذيب ما أن يُرددها عشرات حتى تتفشى فى شكل حقائق مهما بلغ ابتعادها عن المنطق والمعقول، حجم السخرية الذى يمارسه هواة وسائل التواصل الاجتماعى- وإِن كان بحسن نية- يُعيد إلى الذاكرة رسالة تحذير وردت فى خطاب للزعيم عبدالناصر حين انتشر توجيه سهام السخرية ضد الجيش بعد نكسة 1967، منبها إلى خطورة الظاهرة ودور أجهزة الدعاية الإسرائيلية فى تغذيتها. النقد الموجه لعدم الاستجابة الفورية فى إعلان الأخبار الصحيحة والحقائق من الجهات المعنية بالتأكيد يمثل جانبا من الإشكالية.. بدليل نسبة كبيرة من الأكاذيب تم تصحيحها بشكل سريع مع البيانات والتفاصيل، دون أن يمنع ذلك استمرار تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي.. وهو أمر متوقع من كتائب «عصابة البنا» وحلفائها، بعدما استحلوا سرقة وتشويه أى وكل شىء.. من الأغانى حتى الثورات على طريقة «ما ملكت أيمانهم»، لكنه ذنب لا يُغفر لمن ينتمون إلى مهن تضعهم ضمن النخبة الهادفة إلى ترسيخ المنطق بالحقائق. الدعوة إلى ضبط سموم وعشوائية وسائل التواصل الاجتماعى فى صيغة قوانين مكافحة الجريمة الإلكترونية، سواء من البرلمان أوالهيئة الوطنية للإعلام، واقعيا لا تمثل حلا جذريا، مع توافر البرامج العديدة التى تتيح لمستخدمى الإنترنت الدخول إلى كل المواقع التى يتم حجبها عن طريق القوانين. التعامل المنطقى مع منصات البحث ومواقع التواصل هو أشبه بالدخول إلى «سوق دولي» لا حدود له..يجمع فى تركيبة متضافرة بين أفضل وأثمن البضائع وأكثرها فسادا ورداءة. جماعات الإرهاب التى خرجت من عباءة الإخوان استغلت حقيقة أنه كلما تسارعت وتيرة التطور التكنولوجى ازدادت صعوبة السيطرة عليه.. فسعت بكل نشاط إلى استخدام وسائل التواصل كأدوات فوضى وتخريب وقتل بعيدا عن الدافع الذى ألهم مبتكريها. من جهة أخرى، مساحة حرية التعبير المتاحة فى هذه الوسائل أغرت فئة بتحويل مسارها إلى منصات لتداول مختلف أشكال التطرف.. من الأخلاقى حتى الديني. مواقع التواصل الاجتماعى هى فى النهاية مجرد وسيلة لا تصنع المهام القذرة.. الداء يكمن فى الكتائب المُنظمة خصيصا لهذه المهمة، ما يؤكد على أهمية العنصر البشرى فى إخماد ومحاصرة هذه المحاولات اليائسة، والرهان على المزيد من التفاعل بين الحكومة وردود أفعال الشارع.. تحديدا مع ازدياد جرعات بث التشويش والإحباط فى ظل أجواء اقتصادية صعبة نتيجة إصلاحات تأخرت مصر كثيرا فى إجرائها. رجل الشارع البسيط قد لا يكون معنيا بتفاصيل الإصلاحات الإيجابية على صعيد المستقبل بقدر ما تشغله صعوبة الظروف المعيشية وارتفاع الأسعار، هذه الحالة العامة أوهمت «عصابة البنا» وذيولها بأن مصر ستصبح هدفا سهلا للتفكيك بمجرد نشر أكاذيب تدنى معظمها إلى مرتبة الهذيان.. رهان خاسر آخر على شعب أكسبت الأزمات والمحن وعيه حصانة رغم سمات الطيبة والبساطة الغالبة على طبيعته.
مشاركة :