بعد مكسيم غوركي، وألبير كامو، وأوجين أونيل، وفرانك ويدكيند، وسوفوكليس، يقبل المخرج البلجيكي الشهير إيفو فان هوف على عالم شكسبير، وقد اختار الجمع بين ثلاث مسرحيات تتناول العصر الروماني وصراعاته في عمل أطلق عليه “تراجيديات رومانية”. تضم مسرحية “تراجيديات رومانية” للمخرج البلجيكي إيفو فان هوف ثلاثة أعمال لشكسبير هي على التوالي “كوريولانوس” و”يوليوس قيصر” و”أنطونيو وكليوباترا”، والمعلوم أن شكسبير سلّط الضوء في كل واحدة منها على مفاصل السلطة والاستراتيجيات والمطامح السياسية المختلفة، من خلال شخصيات رومانية شهيرة أولها كوريولانوس قائد الحرب الأسطوري الذي يرتاب من الدهماء، وثانيها يوليوس قيصر الديماغوجي متملق الدهماء الذي قتله بروتوس لإنقاذ الديمقراطية، وأخيرا أنطونيو الممزق بين الحب والسياسة. وفان هوف يقدّم هنا، في نسق محموم، الصراعات السياسية في روما القديمة، وإسقاطها على التقلبات السياسية لعالم اليوم، فمن خلال “كوريولانوس” يصوّر فان هوف حاكما يصم أذنيه عن رغبات الشعب. ومن وراء تراجيديا “يوليوس قيصر” يسرد صعود قيصر إلى سدة الحكم، ثم اغتياله ممّن يفترض فيه أنه يتصدى للدكتاتورية، أي ابنه بروتوس. وعبر العلاقات الغرامية/ الدرامية بين “أنطونيو وكليوباترا”، يبيّن المخرج كيف تتشابك الاعتبارات السياسية بالعواطف بشكل مأساوي. ومن خلال كل ذلك تتكشّف اللعبة السياسية في أوجهها المتنوعة، وهي تعرض وتنتشر في وسائل الإعلام وتتداول بالتعليق والنقد والتحليل وتصوّر في أفلام وتُعدّ للمسرح، فتتبدّى باهرة وقاسية في الوقت ذاته، وما استناد فان هوف إلى نصوص شكسبير في تناول ثيمة السلطة والسياسة إلاّ لكون صاحب “هاملت” يعتبر العالم كله خشبة مسرح. أعدّ فان هوف والسينوغرافي يان فيرسفايفيلد فضاء ركحيا عظيما، حوّل الخشبة إلى مركز مؤتمر مفتوح، فيه أرائك وأضواء مكاتب تنحدر من السقف، وأجهزة تلفزيون، وموقع إنترنت، ومناضد عليها مشروبات وأطعمة شتى. وهم حرب حقيقية يعرض على خشبة المسرحوهم حرب حقيقية يعرض على خشبة المسرح هذا الفضاء يمكن أن يحدث فيه كل شيء في أي لحظة، فالقاعة مثلا يمكن أن تتحوّل من أستوديو تلفزيون إلى صالون جلسة حميمة، ذلك أن الخشبة هي مركز كل ما يجري. وتقترح التلفزيونات صور الأحداث الجارية كالحرب والزلازل والزوابع، ولكنها تلتقط أيضا ما يجري على الخشبة لتبثه في التو واللحظة، بغرض التأكيد على أن كل حدث لا يذهب سدى. أما المتفرج فهو يشاهد الأحداث وكأنه جالس في صالون، ذلك أن فان هوف ألغى الجدار الرابع، فالممثلون يضعون المساحيق أمام الجمهور مباشرة، ويتناقشون ويتسلون ويبحثون في الإنترنت عن رسائلهم الإلكترونية.. وثمة أيضا شاشة ضخمة تتناوب على صفحتها الأخبار العالمية، وحتى تغريدات متنوعة لا تلتقي في الغالب إلاّ في عدد الكلمات، للدلالة على أن كل واحد في مجتمعاتنا المعاصرة صار يستطيع أن يبدي رأيه وينشره على العالمين بكل سهولة. إضافة إلى ذلك، ثمة عازفان على جانبي الخشبة لتأمين المناخ السمعي للعمل التمثيلي، وتسنده في لحظات سكونه وتوتره، كما في مشاهد الحروب حيث تتلألأ الأضواء مثل ومض البرق، وتعلو أصوات آلات النقر بشكل يصم الآذان، وتختلط أضواء يان فيرسفايفيلد بموسيقى بليندمان، وتتجلى في الأثناء صور معارك على الشاشة الضخمة لتضفي كلها على المشهد وَهْم حرب حقيقية داخل المسرح. يمتد العرض على مدى خمس ساعات ونصف الساعة، دون استراحة، عدا بعض اللحظات التي تسمح بتغيير الديكور، فالنسق يسير وفق إيقاع بطيء يلتحم بالواقع ومناخاته، والممثلون مزودون بمكروفونات تسمح بحميمية السينما، حيث يسمع الهمس والوشوشة والحديث العادي كما في الحياة اليومية بشكل واضح. فان هوف إذ يستحضر في ترتيب كرونولوجي كوريولانوس ويوليوس قيصر ثم أنطونيو وكليوباترا، يسعى إلى تفكيك آليات السلطة السياسية عبر الظهور الصاخب للديمقراطية أما عن الأزياء، فقد ظهر الرجال في بذل أنيقة كما في المؤتمرات، فيما تبدت النساء في بدلة نسائية تتألف من سترة وتنورة، للتأكيد على الصورة الواقعية لعالم الأقوياء، أي الساسة ورجال الأعمال، وهي واقعية تكشف عن الوجه التراجيدي للسياسة اليوم. أيا ما يكن الموضوع الذي يختاره فان هوف، سواء من النصوص الكلاسيكية لسوفوكليس وشكسبير، أو المعاصرة لأرثر ميلر ومكسيم غوركي وألبير كامو وأوجين أونيل، أو من الأعمال السينمائية لفيسكونتي وجون كاسافيتز وإنغمار بيرغمان، فإنه يحرص دائما على إبراز التوترات والرهانات التي تتجلى في صميم حاضرنا، وهشاشة وضعنا الإنساني الذي يربط الذهن بالمؤثرات الأولى بعبارة علماء النفس. وفان هوف إذ يستحضر في ترتيب كرونولوجي كوريولانوس ويوليوس قيصر ثم أنطونيو وكليوباترا، يسعى إلى تفكيك آليات السلطة السياسية عبر الظهور الصاخب للديمقراطية، ليصل الماضي بالحاضر، والبعيد المنقضي بالراهن الساخن. والخلاصة أن “تراجيديات رومانية” عمل ذكي يدفع إلى التفكير وإعمال العقل في كل ما يعرض على شاشات جعلت من “السياسي” خبزها اليومي.
مشاركة :