تأسيس القوات المسلحة الأميركيّة الفضائيّة Space Force في 2018: ذلك على الأرجح الحدث الأكثر صلاحية لمرافقة الذكرى الستين لتأسيس «الوكالة الوطنيّة (الأميركية) للفضاء والطيران» National Aeronautics & Space Agency (اختصاراً «ناسا» NASA). وضمن مبادراته الساعية إلى التفرّد (لكنها ربما فَعَلَتْ ذلك إيجابيّاً هذه المرّة)، أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أواسط حزيران (يونيو) 2018، توجيهاً رئاسيّاً تنفيذيّاً إلى وزارة الدفاع، يقضي بإنشاء قوات مسلحة فضائية. وشدد على أن تكون مستقلة ومساوية للأذرع الخمسة المعروفة للقوات المسلحة الأميركيّة (مشاة، بحرية، طيران، مشاة البحريّة والجيش الإلكتروني)، مع الإشارة إلى أن الذراع الإلكترونية صار قوّة مستقلة في ظل ولاية الرئيس الديموقراطي السابق باراك أوباما. ولم يفت معلقون أميركيون ملاحظة الهاجس المستمر لدى ترامب بولاية أوباما وأفعاله، لكن ذلك لا يخفف من واقع أنه اتخذ خطوة تاريخية فعلياً بإنشاء أول قوة أميركية مخصصة للعمل في الفضاء الكوني. ماذا يعني ذلك بالضبط؟ كيف يكون تسليحها مثلاً؟ في مستهل القرن الحادي والعشرين، أجرت «ناسا» تجربة تضمنت تفجير ذريّاً في أحد الكويكبات التي تدور في منطقة فضائية تعرف باسم «حزام كيبور». هل يعني ذلك أن الأسلحة الذرية التي تخضع للتقييد والتقليص على الأرض، ستتمدد في المساحات الشاسعة للفضاء الكوني؟ ألا يحمل الأمر مخاطرة كبرى؟ ثمة مؤشرات كثيرة على نقص كبير في المعرفة العلمية للبشر في أحوال الفضاء، بل إن القرن العشرين اختتم على بداية تعرف علماء وكالة «ناسا» على «المادة المظلمة وطاقتها» Dark Matter & its Energy، وهي لم تكن معروفة لديهم، بل إن معرفة خصائصها بدأت تتراكم بصورة بطيئة في القرن 21. أليست مغامرة تحريك أسلحة تملك طاقات كبرى، في مساحات لا يعرف البشر تحديداً ما هي القوة والتفاعلات التي تجري فيها فعلياً؟ ماذا لو اقتربت أسلحة الذرة من ثقب أسود؟ هل من الممكن تصوّر وقوع «خطأ ما» يؤدي إلى الإخلال بالتوازنات غير المحددة بدقة، بين الأجسام الكونية الكبرى أو الصغرى؟ كأنما فجأة بل على غفلة لعل شيئاً من تلك الهواجس ظهر في تعليق عالِم الفضاء الأميركي بريان ويدن الذي لاحظ أن الإعلان الترامبي جاء في سياق اجتماع أول في عهده لـ «المجلس الوطني للفضاء» National Space Council. ووفق ويدن الذي يرأس منظمة «مؤسسة تأمين العالم» Secure World Foundation، هدف الاجتماع أن يكون إعلاناً عن تجديد عمل المجلس. وأفاد أيضاً أن البرنامج المُعلَن للاجتماع لم يكن سوى البحث في إدارة حركة المواصلات في الفضاء (كتلك المتصلة بتكاثر الأقمار الاصطناعية ووصول بعضها إلى نقطة نهاية الخدمة)، وليس إنشاء قوات عسكرية كونية. والمفارقة أن وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس عبر قبل أيام من الاجتماع، عن رفضه إضافة أذرع للقوات المسلحة الأميركية، بما فيها قوات الفضاء. وفي الوضع السائد حاضراً، يتولى فرع من سلاح الطيران مسؤولية الأمن الأميركي في الفضاء، بما فيها الأقمار الاصطناعية التي يشرف عليها البنتاغون، وهي تعمل غالباً في نظم الإنذار بضربات صاروخية، وتوجيه السفن والمركبات الأرضية والجوية والاتصالات على أنواعها. ويسمّى ذلك الفرع «إدارة الفضاء في سلاح الطيران». ويتألف من قرابة 36 ألف كادر موزّعين في ما يزيد على 130 موقعاً على الكرة الأرضية. ويولي الفرع عناية قصوى لرصد النشاطات التي تنهض بها الدول الأخرى في الجو والفضاء، خصوصاً تلك التي ربما تؤثر في عمليات الجيش الأميركي. في المقابل، ذكر الموقع الشبكي «سبايس نيوز» الأميركي المختص بأخبار الفضاء أن قرار ترامب له ما يبرره تماماً، بل إن موازنة البنتاغون لعام 2018 تضمّنت بنداً عن إنشاء «فيالق فضائيّة»، ما يعني أن قرار ترامب لم يكن صاعقة انقضّت فجأة من سماء صافية. وكذلك شهد عام 2017، إطلاق مبادرة في شأن تأسيس قوات مختصة في العمل في الفضاء الكوني، صاغها النائب مايك روجرز (جمهوري، من ولاية آلاباما)، وجيم كوبر (ديموقراطي، من ولاية تينيسي)، ما يعني أن الأمر ربما يتجاوز الانقسام المعروف بين الحزبين. وآنذاك، برر النائبان مبادرتهما بالإشارة إلى امتلاك روسيا والصين قدرات عسكرية مخصصة للفضاء، تفوق القوى العسكرية الأميركية التي تتولى مهمات مشابهة، ما يفرض إنشاء ذراع عسكرية مستقلة ومتخصصة بشؤون الفضاء. وفي مطلع القرن 21، كاد الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش أن يكون الرئيس المؤسس للقوات الأميركية الفضائية، بعد أن أقنعه بتلك الفكرة وزير دفاعه دونالد رامسفيلد. وآنذاك، حالت ضربات الإرهاب في 11/9 دون الاستمرار في تنفيذ تلك الخطوة. المريخ منافساً ولكن... لعل الخسوف الأطول في القرن 21، لذلك «القمر الدامي» مع مرافقة بلون برتقالي ساطع للمريخ، ذكر جمهوراً كبيراً بوكالة «ناسا» لأسباب كثيرة. إذ نشأت تلك الوكالة أصلاً لتنافس الاتحاد السوفياتي آنذاك في الوصول إلى القمر، في إحدى أقوى منازلات «الحرب الباردة» بين العملاقين السوفياتي والأميركي في القرن العشرين، كما يرد بعد بضعة سطور. وسجّلت «ناسا» سبقاً مذهلاً في عام 1969، عندما تفوقت على السوفيات في إيصال أول كائن بشري ليسير على سطح القمر. وثمة من يعتبر أن ذلك التفوق العلمي والعملي كان بداية انتصار أميركا في «الحرب الباردة» على العملاق الشيوعي السوفياتي. وسواء أصح ذلك الأمر أم لا، شكل الوصول إلى القمر نقطة متألقة في سجل وكالة «ناسا»، ما زالت تفاخر به حتى الآن. واستمرت الرحلات المأهولة وغير المأهولة في التدفق إلى القمر، بل طاولت وجهه المظلم الذي لا يُرى من الأرض أبداً. وهناك برنامج صيني- سعودي لإرساء مركبة فضاء غير مأهولة تستقر لفترة في ذلك الوجه المظلم، كي تقدم نظرة مغايرة عن الكون وأرصاده وخرائطه النجمية وغيرها. وغاب القمر قليلاً عن مقدمة برامج «ناسا» في عهد الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون، وحل المريخ بديلاً منه. وسبقت أميركا دول العالم في إيصال مركبات روبوتية تسير على سطح المريخ وتستكشفه، وهي لا تزال تعمل لحد الآن. وترافقت الذكرى الستين للـ «ناسا» مع إعلان «وكالة الفضاء الأوروبية» عن اكتشاف أول خزان للمياه الجوفية قرب القطب الشمالي للمريخ، ما يعطي دفعة نوعية لبرامج إيصال بشر إلى الكوكب الأحمر، بل ربما الإقامة فيه. ويذكر الترافق بين خسوف «القمر الدامي» وسطوع المريخ، بأمر مهم برز في سياق مغامرة اكتشاف الإنسان للكون، بل صار أساساً (لكن بصورة مضمرة نسبياً) في الأهداف الاستراتيجية في استكشاف الكون. ويتمثل ذلك في الصراع مع رقم معروف هو 5.5 بليون سنة! نعم. إنه رقم معروف تماماً، لكنه مخيف أيضاً. إذ تفصل تلك السنوات البشر عن موعد انهيار النظام الشمسي، بعد أن يستنزف ذلك الفرن الفضائي قدراته كلها. ويعني ذلك أنه يتوجب على البشر السعي لاكتشاف كواكب تصلح لسكنى بشر فيها، أو ربما نقل أعداد كبيرة منهم إليها. هل ينتقلون جميعهم أم لا؟ كيف تكون الأمور حينها؟
مشاركة :