تداعيات الخروج من الاتحاد الأوروبي على السياسة الخارجية البريطانية

  • 7/31/2018
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

ثمة تحولات كبيرة تشهدها السياسة الخارجية البريطانية في الفترة الأخيرة في أعقاب قرارها الخروج من الاتحاد الأوروبي، «البريكست»، والذي كان له تداعيات كثيرة، آخرها قيام وزير خارجية الاتحاد الأوروبي «ديفيد دافيس» بتقديم استقالته في 8/7/2018، ولحقه وزير الخارجية «بوريس جونسون» في اليوم التالي. غير أن ما عمق من هذه التداعيات الشكوك التي أثارتها زيارة الرئيس الأمريكي، «دونالد ترامب» إلى لندن يوم 12يوليو، بعدما تأكدت رئيسة الوزراء البريطانية «تيريزا ماي» من ضعف وانهيار قوة التحالف عبر الأطلنطي. وتعتمد بريطانيا في سياستها الخارجية ذات النفوذ العالمي إلى حد كبير -وخاصة بعد تراجع دورها كقوة استعمارية على مستوى العالم منذ القرن العشرين- على عاملين أساسيين، الأول: دورها النشط في أوروبا: فعلى الرغم من أنها تقوم بتشغيل مجموعة واسعة من المشاريع الأحادية سواء في التجارة أو العلاقات الدبلوماسية والتعاون الأمني، إلا أن الكثير من نشاط سياستها الخارجية ينبع من علاقاتها الوثيقة مع الاتحاد الأوروبي؛ نظرًا إلى كونها تتمتع بعضوية قوية فيه، تستطيع من خلالها الوصول إلى الطرق الدبلوماسية مع 27 دولة في الاتحاد، بما في ذلك الدول المتقدمة؛ مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا؛ وهو ما يعطيها القوة لمنافسة القوى العظمى العالمية مثل الصين وروسيا. ثانيا: الشراكة والتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تمتد لأكثر من 60 عاما، وخاصة أن هناك تنسيقا ثنائيا وثيقا بينهما بما يخدم المصالح المشتركة لكلا الجانبين. لكن مع قرار بريطانيا مغادرة الاتحاد الأوروبي، وانتخاب رئيس أمريكي، ناقش علانية نفوره من النظام العالمي الحالي، ومعايير السياسة الخارجية التي تدعمه؛ يبدو هذا الموقف في الوقت الحالي قد تغير. فبدون الوصول إلى الاتحاد، تفقد بريطانيا قدرتها على التأثير في القرارات داخل أوروبا، وكذلك على سياسة المنظمة المتعلقة ببقية العالم. في حين أن رغبة «ترامب» في تقليص المشاريع الأمريكية في الخارج تترك بريطانيا من دون شريك داعم للمبادرات المستقبلية، فضلا عن أنه مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أصبحت أكثر نفورا من سياسات الولايات المتحدة، ولم تعد العلاقات بينهما كما كانت عليه في الماضي؛ ما أثر على قدرتها على العمل كقوة عالمية، وهو ما أكده كل من «جورجينا رايت»، و«ماثيو بيفنتو»، الباحثين في المعهد الملكي للشؤون الدولية «تشاتام هاوس» بلندن، من أن «كلا الدولتين حاليا تواجهان تهديدات خارجية، نتيجة البريكست، وسياسة أمريكا الخارجية التي تميل إلى الانعزالية، التي ينتهجها ترامب». وبغض النظر عن هذه القيود المتوقعة على السياسة الخارجية لبريطانيا لا يزال بعض المحللين غير مقتنع بتأثيرها الهيكلي الشامل والدائم. وكثيرا ما يسلطون الضوء على أنه من الصعب أن يكون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يلازمه انفصال تام عنه، فقد تنشأ تغييرات تستفيد منها بريطانيا على المدى الطويل، مثل ما يسمى بـ«الخروج الناعم»، الذي تحتفظ فيه بريطانيا بالوصول إلى السوق الموحدة، وهياكل الأمن الأوروبية، وتستمر في تبادلات القوة الناعمة مثل البرامج الثقافية، فضلا عن أنهم يشككون في طول عمر إدارة ترامب، ويؤكدون أن النزعة الانعزالية والقومية في إدارته مؤقتة، مرجحين أن تأتي الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2020 بمرشح أكثر تقليدية يسعى إلى إعادة تنشيط التحالف عبر الأطلسي. وحتى في ظل الظروف المُلحة الحالية، تتمتع بريطانيا بالعديد من السبل التي تمكنها من الحفاظ على مكانتها البارزة في النظام العالمي النيوليبرالي المهيمن، وهو ما أكده «جون بيو»، و«جابرييل إليفوريو»، الباحثان في مؤسسة «Policy Exchange» البريطانية، من أن «العناصر الموضوعية للقوة البريطانية لم تتغير». وفي المقام الأول يُمكننا تصنيف تلك العناصر على أنها «المنتديات والاتفاقيات والمؤسسات المُتعددة الأطراف التي تبقى بريطانيا طرفا فيها». وفي حين أن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو الأقوى بين جميع المنظمات التي تحتفظ بريطانيا بعضوية فيها، فإن المملكة المتحدة تحتفظ بإمكانية الوصول إلى تحالفات عسكرية قوية أخرى مثل حلف «شمال الأطلسي»، وعدد من الأطر الاقتصادية مثل؛ «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، «OECD» وعدد من الهيئات السياسية الدولية مثل «الأمم المتحدة»، و«مجلس الأمن»، ورابطة «دول الكومنولث»، حيث توفر هذه المنتديات والمؤسسات الدولية مساحات دبلوماسية لبريطانيا يُمكنها من خلالها تحقيق أجندتها والحفاظ على فعالية سياستها الخارجية على الساحة الدولية. إلا أنه مع توافر تلك المنافذ التي من خلالها تتابع مصالح سياستها الخارجية هناك عدد من العوامل التي يراها المراقبون قد تمثل قيودا. ولعل أهمها على المدى القصير ما تشهده بريطانيا حاليًا من اضطرابات داخلية، والتي تشتت بدورها صناع السياسة عن تبني وإدارة سياسة خارجية شاملة، حيث تفتقر حكومة الأقلية المحافظة الحالية إلى أغلبية تشريعية تمنحها حق تمرير التشريعات والمبادرات في البرلمان، كما أنها تعاني من التشتت بشكل ملحوظ إزاء قضايا ملحة، مثل «بريكست»، و«الهجرة» و«فضائح التحرش الجنسي»، وهو ما أوضحه «هوسوك لي- ماكياما» مدير المركز الأوروبي للاقتصاد السياسي الدولي، في صحيفة «بوليتيكو» من أن «الوجود البريطاني بالكاد كان ملحوظا في مجموعة السبع، منذ أن بدأت قضاياها المحلية تتراكم». وبنظرة أكثر تشاؤما رأى عدد من الباحثين أنه حتى لو عادت السياسة البريطانية إلى الحياة الطبيعية في السنوات المقبلة، تبقى هناك عوامل أخرى طويلة الأجل من شأنها أن تحد من قدرات السياسة الخارجية لبريطانيا، يأتي في مقدمتها «الضرر الاقتصادي» الذي من المتوقع أن يتسبب فيه «بريكست»، حيث يقول «تشارلز بي» من مؤسسة «راند» الأمريكية: إن «خيار ترك الاتحاد الأوروبي من دون عقد صفقة سيؤدي إلى أكبر خسائر اقتصادية في تاريخ المملكة المتحدة». ويُظهر تحليل هذا السيناريو أن التجارة بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية ستقلل من الناتج المحلي الإجمالي لبريطانيا في المستقبل بنحو 5% بعد عشر سنوات من الـ«بريكست»، أو 140 مليار دولار، مُقارنة بعضويتها في الاتحاد؛ نتيجة انسحابها من السوق الموحدة والاتفاقيات التجارية العالمية العديدة للاتحاد، الأمر الذي سينشأ عنه تخفيضات عددية ونوعية في المبادرات العالمية لبريطانيا. وهو ما دعا «دينيس ماكشين»، وزير الدولة البريطاني السابق للشؤون الأوروبية إلى الحديث بمقاله في «كارنيجي أوروبا»: عن أن «البريكست، هو أكبر خطوة ستواجهها بريطانيا على الإطلاق في تاريخها وستؤدي إلى تقويض علاقاتها دوليا». وفي حين فشلت بريطانيا في تأمين اقتصاد قوي يحافظ على تركيز سياستها الخارجية العالمية التي حافظت عليها منذ عهد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فإن هذا سيؤدي في النهاية إلى استمرار المزيد من تراجع نفوذها. وعلى صعيد مُشاركتها في المنتديات المُتعددة الأطراف، سوف تتوقف عن الظهور كقائدة بين الدول الأخرى في غياب الطموح والقدرة على صياغة السياسات الدولية، بمعنى أن الدول الصغيرة والنامية سوف تسعى بدلاً من ذلك إلى اللجوء إلى دول أخرى لتتخذها كرُعاة لمصالحها. وعلاوة على ذلك إذا حاولت بريطانيا أن تخوض بنفسها في غمار السياسة الخارجية سعيًا لتأمين مصالحها، فلن يكون لديها سوى القليل لتقدمه للدول الأخرى من أجل تأمين دعمهم. وقد بدا هذا جليًّا مؤخرا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حين فشلت في تأمين الدعم لموقفها، بشأن الوضع القانوني لـ«جزر تشاجوس» التي تُدار حاليًا باعتبارها أحد أقاليم ما وراء البحار البريطانية، وهو ما يعد دليلا على أن قدرات السياسة الخارجية البريطانية قد تأثرت جراء البريكست والإدارة الأمريكية الجديدة. ومع ذلك، سعى عدد من الأكاديميين والمحللين إلى التفكير في طرق يمكن من خلالها تقليص هذا التأثير أو القضاء عليه. وقد برز في هذا السياق فكرة إعادة إحياء «منظمة الكومنولث البريطانية»، كمنتدى اقتصادي وسياسي متعدد الأطراف، بل وربما عسكري، على عكس هدفه الحالي المتمثل في كونه منتدى ثقافيا وشرفيا. وفي هذا الصدد يقول «فريد كارفر»، من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية: «إن تلك المنظمة، تشكل العمود الفقري للسياسة الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وتعمل باستقلالية دون أي تأثير بأسباب تشكيلها»، وتتمتع المنظمة بعضويات متنوعة، بما في ذلك بعض الدول الإفريقية، ودول «البريكس»، ومنها الهند والعديد من البلدان الجزرية النامية، بالإضافة إلى دول من مجموعة الـ77 ودول عدم الانحياز. ولعل هذا التنوع يعني أن لديها القدرة على مساعدة المملكة المتحدة في بناء الجسور المشتركة في وقت قد تتراجع فيه علاقات لندن وتتأثر سياساتها. وعلى الرغم من أن الفكرة محتملة الحدوث على أرض الواقع إلا أن فكرة إعادة صياغة وإحياء تلك المنظمة أثبتت أنها غير مقبولة سياسيا، سواء داخل أو بين الأعضاء الأوروبيين، بسبب ما تحمله من إيحاءات إمبريالية جديدة في الوقت الراهن. في حين اقترح آخرون أن تستلهم بريطانيا فكرة حركة عدم الانحياز إبان الحرب الباردة، التي ستركز بموجبها سياستها الخارجية الحالية على خدمة مصالحها من خلال البراجماتية، بدلاً من المفاهيم الآيديولوجية. فقد أوضح كل من «جورجينا رايت»، و«مات بيفينغتون» بالمعهد الملكي للشؤون الدولية، «تشاتام هاوس» بلندن، أن «أحد الخيارات المستقبلية تكمن في احتمالية رؤية بريطانيا كقوة وسطية متعددة الأقطاب قادرة على بناء تحالفات مرنة مع الدول الأخرى اعتمادا على القضايا ومجالات العمل المتبادلة». وكما ذكر «مالكوم تشالمرز» مدير الباحثين في معهد «رويال يونايتد سيرفيسز»، البريطاني، فإنه «يمكن لبريطانيا تركيز طاقتها على البلدان والمناطق والقضايا المشتركة التي تربطها بها مصالح قوية»، وهو سيسمح لها بمواصلة علاقاتها القوية مع الدول في مناطق إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، وبذلك تبقى قوة مؤثرة على الصعيد العالمي، من دون الاضطرار إلى التمسك بالسياسة الدبلوماسية في مناطق تتمتع فيها بمصالح واهتمامات أقل مثل أمريكا الجنوبية وآسيا الوسطى. على العموم، يبدو حتميا أن السياسة الخارجية البريطانية الجديدة قد تختلف في توجهاتها عما كانت عليه خلال العقد الماضي، ولا سيما أن ثمة قناعة بالتغيرات الهيكلية الجديدة. ومع ذلك ستظل بريطانيا دولة قوية في إدارة دفة الشؤون الدولية وإن تقلص هذا الدور، بما يعني أن العالم من المحتمل أن يرى بريطانيا بصورة أكثر تحفظًا آيديولوجيا في المستقبل المنظور.

مشاركة :