لبنان يجمع بين العراقة والحداثة، كما يجمع بين شواطئه الجميلة وجباله المرتفعة، ما بين رياضة السباحة والألعاب المائية ورياضة التزلج. ويشتهر لبنان أيضاً بتقديمه الإقامة الفخمة إلى الإقامة المتوسطة التكاليف، بالإضافة إلى حسن الضيافة وأفضل الخدمات وأشهر المآكل، كما يشتهر بمناطقه التي تحوي آثار معظم الحضارات الشرق أوسطية القديمة، والتي تعود إلى 3000 سنة قبل الميلاد، كما يشتهر بكهوفه، ومن بينها مغارة جعيتا التي رشحت لتكون من عجائب الدنيا. يمتلك لبنان أيضاً الكثير من نوادي الثقافة والترفيه، وهي تقدّم للسائح تجربة خاصة لا يجدها في أي من دول المنطقة. كما يشكل بمراكزه التجارية الحديثة ودور أزيائه مقصداً للمتسوقين العرب والأجانب، يقصدونه بحثاً عن آخر الابتكارات في عالم الأزياء. وشكّل لبنان، في عقد الستينات وحتى عام 1975 موقعاً مضيئاً للسياحة في المنطقة، إذ تمتع، إلى جانب مواقعه الأثرية القديمة وجمال شواطئه وجباله، بكونه البلد الوحيد الذي يقدم ألعاب التزلج، والرياضات الشتوية الأخرى. تبدو الحاجة ماسّة لكي تقوم الدولة والقطاع الخاص بالعمل على وضع لبنان على الخريطة السياحية الإقليمية والدولية، وذلك ضمن التوجّه العام الراهن لإعادة بناء الاقتصاد الذي تراجع بسبب الحروب والتطورات الإقليمية المزلزلة. يمكن أن تشكل السياحة ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد اللبناني إلى جانب القطاعات الإنتاجية الأخرى كالصناعة والزراعة وقطاع الخدمات، لكن ذلك يتطلب استعادة الثقة بالوضعين السياسي والأمني، إلى جانب ضخ استثمارات كبيرة من أجل تطوير البنى السياحية الأساسية. على رغم صغر مساحته وقصر المسافات بين الساحل والجبل، وموقعه كمدخل بحري وجوي إلى منطقة الشرق الأوسط، فإن البنى الأساسية للانتقال والاستعمال السياحي في حاجة ماسة للتطوير والتحديث، فالحاجة ملحة لتطوير مطار رفيق الحريري الدولي ورفع قدرته لخدمة 12 مليون راكب سنوياً. كما تبرز الحاجة لتطوير الموانئ البحرية وتأهيلها من أجل استقبال السفن السياحية الكبيرة، وبالتالي التحول إلى نقطة جذب للرحلات السياحية في البحر المتوسط. ولا بدّ من العمل على تطوير شبكات الطرق الأساسية، والتي باتت تشكل عائقاً أمام السياح والسكان المحليين للوصول إلى مقصدهم. لا بدّ من أن نشير في هذا الإطار إلى ضرورة تطوير خدمات النقل السياحي والمشترك، بالإضافة إلى تنظيم خدمات «التاكسي» وتحديث هذه الخدمة الضرورية ومراقبة القائمين بها. صحيح أن بيروت عرفت بفنادقها الفخمة، وهذا ما تفتقده المدن اللبنانية الأخرى والمواقع السياحية المهمة. لكن لا يمكن السياحة الحديثة أن تجتذب ملايين السياح من الطبقات المتوسطة إذا لم تتوافر المنتجعات والفنادق المتوسطة التي تستطيع أن تقدّم أفضل ظروف الإقامة والخدمات بأسعار مقبولة. لم تعد السياحة الحديثة قائمة على استقبال الأفراد والعائلات من الأثرياء، بل تطورت وتوسعت لتشمل الجماعات التي تنتقل في رحلات منظمة بكلفة مدروسة تشمل بطاقة السفر والإقامة والطعام والرحلات السياحية الداخلية. من أجل اللحاق بهذه المقاربة الحديثة لتطوير السياحة لا بدّ من تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في البنى السياحية الأساسية، وفي إنشاء شركات سياحية قادرة على التعاون مع شركات السياحة الإقليمية والدولية لتبادل السياح والخدمات على اختلافها. سبق أن كانت للبنان سمعة ممتازة لجهة تنوع مطاعمه التي تقدّم المأكولات اللبنانية والغربية والآسيوية، بالإضافة إلى إتقان الضيافة والخدمات الممتازة. ما زال بعض هذه الخدمات متوافراً، خصوصاً في بيروت والجوار المباشر ولكنها تراجعت في معظم المدن والمناطق. تتطلب السياحة الحديثة، ليس فقط ازدهار قطاع الخدمات، ولكن العمل على تنويعها، وجعلها متوافرة بأسعار مقبولة من السائح العربي والأجنبي على غرار ما هو عليه الوضع في تركيا ومصر. وفي حين عرف لبنان بنواديه الثقافية ومسارحه ونواديه الليلية التي كانت تستقبل كبار الفنانين، تدهور الأمر فتحوّلت النوادي الراقية علباً ليلية، أما النوادي والمجالس الثقافية فقد اضمحلت وكذلك المسارح العربية، وهي في حاجة إلى تمويل وتطوير. وتبرز أيضاً أهمية إقامة منتجعات لممارسة الرياضات المائية في مواقع مختارة على الشاطئ وإقامة نوادي يخوت ومدارس غطس، بالإضافة إلى منتجعات جبلية وتجهيز مراكز تزلج وتجهيزات لممارسة الرياضات الجبلية الأخرى، بما فيها السير والتسلق، وإدراجها في الدليل السياحي. ولا بدّ من العمل لإعادة كازينو لبنان إلى ما كان عليه، ليس في ما يعود فقط إلى ألعاب الميسر بل أيضاً إلى كامل نشاطاته كمقصد سياحي، سواء لبرامجه الفنية أم مطاعمه أم مسرحه الذي يجب أن يتحول مسرحاً دائماً للعروض والموسيقى. يمكن لبنان أن يتحول موقعاً لسياحة المعارض والمؤتمرات والندوات، ويمكن أن يشارك في هذا النوع من السياحة القطاع الخاص من خلال الاستثمار في تنظيم المعارض. كما يمكن أن تشارك المصارف والهيئات الاقتصادية والجامعات ومراكز الدراسات في عقد المؤتمرات والندوات الدولية والإقليمية في لبنان. ولدى لبنان مواقع دينية ورموز وقديسون يمكن الاستفادة منها في المجال السياحي تحت ما يعرف بالسياحة الدينية والروحية. كما يمكن تطوير قطاع السياحة الطبية من خلال إقامة مراكز استشفاء ومراكز نقاهة وتزويدها بالجهاز الطبي والإداري واللوجستي اللازم، والذي لا يفتقد لبنان وجوده. وكذلك جذب الطلاب العرب والأجانب للانتساب بكثافة إلى الجامعات ودور التعليم اللبنانية، وتحقيق ازدهار سياحة المؤتمرات على اختلافها. وهنا تجب إعارة السياحة العربية الاهتمام اللازم، وهذه السياحة لها خصوصياتها عن سياحة الأجانب، إذ تحتاج منشآت خاصة باستضافة العائلات من الرعايا العرب. السياسة السياحية من أجل وضع لبنان فعلاً على الخريطة السياحية الإقليمية والدولية، وبالتالي تحويل السياحة ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد والنمو، لا بد من أن تضع الحكومة إستراتيجية سياحية واضحة، تلتزم وتساهم في تنفيذها جميع القوى والقطاعات. هناك مجموعة من القرارات والخطوات الأساسية التي يجب اتخاذها لإطلاق ورشة تحويل لبنان مقصداً لملايين السياح ومن أبرزها: > إنهاء حالة وجود السلاح مع أي طرف لبناني أو غير لبناني خارج سلطة الدولة وحل كل الجماعات المسلحة لإعادة الثقة الأمنية للسائح. > الاعتماد بالفعل لا بالقول على سياسة النأي بالنفس عن النزاع السوري وبقية النزاعات العربية. > السعي مع الأمم المتحدة بكل الوسائل الديبلوماسية لحل قضية احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من الغجر والخلاف على جزء من المنطقة الاقتصادية الخاصة مع إسرائيل. > فتح مفاوضات مع سورية لاستكمال ترسيم الحدود بين البلدين وإعادة النازحين. > إطلاق ورشة واسعة لتحديث جميع القوانين اللازمة لتطوير وتنظيم القطاع السياحي. > عقد الاتفاقات السياحية مع مختلف الدول العربية والمتوسطية والأوروبية وروسيا ودول آسيا وأفريقيا. لا بدّ من دراسة معمّقة لما يريد السائح في لبنان، ويشكل هذا الموضوع نقطة أساسية لجذب السياح، على أن يبدأ المسار من تحقيق البيئة الأمنية اللازمة التي تُشعر السائح بالثقة والأمان، واعتماد سياسة صارمة من أجل مراقبة النشاطات السياحية وحماية السائح من الاستغلال. لا يمكن إعادة لبنان إلى الخريطة السياحية الدولية في ظل الظروف الراهنة، والخطوة الأولى على هذا الطريق تبدأ من قرار الدولة الحاسم لاستعادة سيادتها كاملة على جميع أراضيها. * باحث لبناني في الشؤون الإستراتيجية
مشاركة :