يحدث أحياناً، وأنت معلقٌ في حالةٍ بين النوم واليقظة، أن يستفز شيء ما شريط الذكريات بداخلك، فتشعر وكأنك قد أُخَذت إلى ذلك الزمن، ذلك المكان وتلك الذكرى، وقد تستغرب لأنها لم تطرأ عليك قبل هذا الوقت وكأنها ممسوحة بأحاسيسها ومشاعرها. تستغرب.. لأن آخر ما ظننته بأنك محتفظٌ فيها بداخلك إلى هذا الحين. وها هي قد عادت. دون سابق إنذار طفت على سطح ذاكرتك وها أنت تعيشها الآن.وهذا تحديداً ما حدث معي ذات يوم، حين هزّت الذاكرة نعاسي وسافرت بي لأكثر من تسع سنوات إلى الوراء.إلى الأيام الكثيرة التي قضيتها في أروقة مبنى علاج السرطان بمستشفى«جورج تاون» في الولايات المتحدة الأميركية حين رافقت أمي رحمها الله، في رحلة جهادها وكفاحها لتتخلص من الخبيث، الذي بعد حرب سنتين انتصر وللأسف كان أقوى منها.كنت أجول كثيراً بين الغرف، أقرأ في الممرات، أصادق المرضى وأستمع إليهم.. تذكرت كل شيء. كل شيء. سمعتُ مرة أخرى أنين من كان علاج الكيماوي يحرق عروقهم، نداءاتهم التي يستجدون الله بها بمختلف دياناتهم واعتقاداتهم وإيمانهم وأعراقهم وانتماءاتهم، كانوا بحاجة إلى قوة عظمى تخلصهم مما هم فيه، ولم يكن لديهم سوى الله.رأيتُ ابتسامات من هم في مراحلهم الأخيرة من المرض، مودعين الحياة التي لن ينفعهم تشبثهم بها، كانت أرواحهم ملأى بالحب والأمل والتقبّل، ولم أكن أفهم كيف.لمحتُ الممرضات، وتأرجحهن بين موت أحدهم، ونزاع آخر، واحتضار غيره، وفرحهن بشفاء البعض وحزنهن على ألم البعض الآخر. وكذلك، لم أكن أفهم كيف يحتملن كل هذا في مناوبة واحدة. كثيرٌ جداً على قلب أي إنسان. ربما لذلك لُقّبن بملائكة الرحمة.لم أفهم الكثير من الأشياء وقتها.. إلا أنني وفق مشاهداتي اليومية هناك فهمت وشعرت بشيءٍ واحدٍ، المرضى أرواح تحتاج إلى كل ما لديك من حب، والممرضات نفوس تحتاج إلى كل ما لديك من تقدير.-انتهى شريط الذكرى، وعدت من الماضي إلى حاضري في رحلة ما بعد انتصاف الليل هذه، وما لبثت أن وجدت نفسي أشرع في تدوين تلك المشاهدات والمشاعر والأفكار في مفكرتي، لأنها قد لا تعود إليّ مجدداً إلا أنني وبكل تأكيد، أود العودة إليها يوماً.-همسةلا تبخل على أيّ روحٍ بما لديك من حب وتقدير.. فالأرواح حين تغادر، لا تعود.
مشاركة :