القاهرة – على بعد 46 كيلومترا من القاهرة، تعيش قرية مصرية صراعا يوميا مع نبات التين الشوكي، بأشجاره المتناثرة في جميع الحقول وعلى جوانبها. يرى قاطنوها سعادة في أشواكه، وقد اعتادوا على وخزها، حتى بات التين الشوكي في رأيهم أفضل من الورود ذات الأشواك أيضا، فمحصولهم له قيمة تتعدى الرائحة. مع قدوم موسم الجني الصيفي، يخرج أهالي القرية، التابعة لمحافظة الجيزة في جنوب غرب القاهرة، عقب صلاة العصر من كل يوم إلى المزارع لجمع ثمار التين الشوكي، وتحميلها على السيارات تمهيدا لنقلها فجرا إلى أسواق الجملة، مرتدين دروعا بلاستيكية، تعلو وجوههم الابتسامة مع كل قفص يمتلئ بالثمار، في موسم المحصول الذي يستمر حوالي شهرين ونصف الشهر. قبل سنوات، كان قطف الثمار يبدأ مع انطلاق شعاع الشمس بعد الفجر مباشرة، لكنهم اضطروا لتغيير مواعيدهم استجابة لمطالب تجار التجزئة، الذين يريدون توزيعها على الباعة الجوالين فجرا، حتى ينتشروا في الشوارع صباحا، لاستقبال الدفعات الأولى من الموظفين والمواطنين أمام الإدارات والمؤسسات. يحمل جني المحصول مخاطر كبيرة، لا تخطر ببال مشتريها من الباعة الجوالين، فأوراقه المفلطحة مليئة بأشواك حادة، والثمار مكسوة بالأشواك الدقيقة التي تتطاير بمجرد لمسها، وحال التصاقها بالجسم تسبب وخزا مؤلما يتضاعف مع محاولات استخراجها، ويزداد الأمر صعوبة إذا اقتربت من الأعين. يقول إبراهيم الفلاح، شاب ثلاثيني، يتولي تعبئة الثمار في صناديق للبيع، هناك إجراءات وقائية يمكن اتباعها لتقليل مخاطر الإصابات بالأشواك، من بينها أن يكون الالتقاط عكس اتجاه الريح، وأن يكون فجرا أو عصرا تلافيا لدرجة الحرارة المرتفعة التي تزيد من حدة الأشواك، إلى جانب التوقف فورا حال هبوب رياح قوية. تتزايد الصعوبات مع الأشجار العتيقة التي يصل عمرها نصف قرن، فطولها قد يتعدى الثلاثة أمتار، ما يتطلب من العامل الصعود على سلم خشبي، ومواجهة شبح الوقوع داخل قلب الشجرة الضخمة، ليصاب بجروح خطيرة، أو أن يلجأ إلى تكسير أوراقها للوصول إلى الثمار، بما لا يرضي صاحب المحصول بالطبع. لا يوجد تاريخ معروف لدخول أشجار التين الشوكي إلى مصر، المنتجون فقط راقبوا توسعها المطرد، واحتلالها الغالبية العظمي من أراضي قرية “أبوغالب”، قبل أن تدخل أشجار الموالح والموز إلى أراضيهم مع ارتفاع أسعارها، وفتح قنوات تصدير خارجية لها، في أعقاب تعويم الجنيه قبل قرابة العامين. تظل المنافسة لصالح التين الشوكي، فالأشجار البالغة منها قد لا تتطلب مياها سوى مرتين خلال العام كله، وحتى الأسمدة فهي اختيارية وفقا لقدرة المزارع ورغبته في تحسين جودة المحصول. قطف الثمار يبدأ مع انطلاق شعاع الشمس قطف الثمار يبدأ مع انطلاق شعاع الشمس الهند هي الموطن الأصلي لزراعة التين الشوكي قبل استقدامه إلى مصر من خلال الرحلات التجارية، لكن المصريين استقدموا أصنافا جديدة من المكسيك ودول أخرى، وبات الحقل الواحد، يضم تشكيلة من السلالات التي تعطي تميّزا في الإنتاج لتتدرج ألوان ثمارها بين الأبيض والأصفر والأخضر والأحمر. وأكد الفلاح، لـ”العرب”، أن موسم الجني يستمر من منتصف شهر يونيو حتى نهاية أغسطس على عدة مراحل، فالثمار لا تنضج مرة واحدة، ويتم التقاط الناضج منها ومنح بعض الوقت للباقي حتى يكتمل نموه. يمكن زراعة التين الشوكي في أي وقت من العام، لكن الموعد الأفضل هو شهر سبتمبر، ويتم استنساخ الجديد من القديم باقتطاع ورقة وتركها تجف ثم غرسها بالأرض، أو اختيار ثلاث ورقات مجتمعة مع بعضها وغرس واحدة بالكامل، بينما تظل الأخريان فوق الأرض. في حالة الأصناف النادرة أو المستوردة من الخارج، يتم تقطيع الورقة لأجزاء صغيرة ومعالجتها بمواد مطهرة لمنع تعفنها عند إعادة زراعتها، لتنبثق من كل منها شجيرة مستقلة تبدأ الإنتاج في العام الموالي للزراعة. ويطالب المنتجون بمصنع محلي لتحويل التين الشوكي إلى عصائر ومربّى، واستغلال الكميات الكبيرة من البذور الذي تتضمنها الثمرة في إنتاج الزيوت، والقشور في إنتاج علف الحيوان، لاستثمار إنتاج مناطق مثل “أبوغالب” و”الخانكة” و”أبوزعبل” في القليوبية، شمال القاهرة، ومنطقة “وادى الملاك” في محافظة الإسماعيلية (شرق القاهرة). ويستخدم زيت التين الشوكي في العديد من الخلطات الطبيعية للعناية بالوجه لاحتوائه على نسبة عالية من فيتامين “ب”، والأحماض الدهنية الأساسية، والأوميغا 6، ومضادات الأكسدة، والكثير من المعادن الأساسية، ولا يحوي مواد كيميائية تضر البشرة على المدى الطويل. وتبدو تلك النباتات، المنتمية إلى الطائفة الصبارية، رهانا ناجحا مع حالة الفقر المائي التي تعيشها مصر، باعتبارها الأقل في استهلاك المياه من بين جميع أصناف الفاكهة، فالفدان الواحد يحتاج إلى 1500 متر مكعب في العام، بينما يستهلك محصول مقابل كالموز من 10 إلى 12 ألف متر مكعب. في العام الأول للزراعة، يتم ري المحصول عشر مرات شهريا إذا كانت الأرض رملية، وفي السنة الثانية تقل إلى ثلاث مرات في الفترة ذاتها، ومع بداية السنة الثالثة يحتاج إلى ثلاث مرات، أما بعد السنة الخامسة فيمكن ريه مرتين فقط سنويا، اعتمادا على قدرة جذوره الممتدة سطحيا لقرابة المترين على التقاط قطرات الندى والمطر. يقول سعيد عبدالعزيز، صاحب مزرعة تين شوكي، إن الصندوق يباع في الحقل بنحو 35 جنيها فقط (أقل من دولارين)، ثم يتم نقله إلى تجار الجملة بمناطق السيدة زينب والسيدة عائشة ودار السلام بمصر القديمة، الذين يتولون بدورهم توزيعه على تجار التجزئة أو الباعة الجوالين بربح عشرة بالمئة، لتباع العبوة للمستهلك، بما يتروح بين 70 و100 جنيه (3.8 و5.5 دولارات). ويضيف لـ”العرب”، أن التين الشوكي ليس مجرد محصول، لكنه صناعة تضمن فرص عمل للجميع، بين الجني من الحقل، والنقل والتحميل، وورش صناعة العبوات من سعف النخيل. ويمثل التين الشوكي بالقرى المنتجة محصولا للسعادة، حيث جنبهم لعقود زيارة عيادات أطباء الأمراض الباطنية، لاحتوائه على مركبات تساعد على سلامة الجهاز الهضمي وتمنع الإمساك، وتخفض مستويات الكولسترول والغلوكوز في الدم، كما يقي من خطر الإصابة بأمراض القلب والسكتة الدماغية. وشجرة التين معمرة قد تتوارثها الأجيال، وتظل تنتج حتى 50 عاما، لكن الفلاحين يفضلون تغييرها لضمان إنتاج أعلى وسهولة أكثر في التعامل معها. ولا يرى المشتري من مراحل العناء مع التين الشوكي سوى تلك الأكوام الهرمية من الفاكهة الصبارية مكومة على عربة خشبية ذات عجلتين ضخمتين يقودها في الغالب شبان حاملين في أيديهم سكاكين صغيرة استعدادا لتقشير الثمرة فورا أمام الزبون لتناولها. محمد علي، الشاب الصعيدي ذو 18 عاما، يتجول طوال اليوم بعربته الخشبية في شوارع القاهرة منذ الصباح الباكر وحتى العاشرة مساء، لبيع الثمار دون أن يرتدي قفازا، وكل أدواته سكين صغيرة وعبوة بلاستيكية ممتلئة بالمياه تساعده على التخلص من الأشواك. لن يعود البائع إلى شقته التي يسكنها مع زملائه الوافدين من محافظة المنيا إلا بعد تصريف كل بضاعته، فهو يعرف جيدا أنها سريعة التلف، ولا يتجاوز بقاؤها طازجة بعد اقتطافها ثلاثة أيام، بما يجعله في صراع مع الزمن لتصريف ما لديه. وأوضح عليّ، لـ”العرب”، إن موسم تلك الفاكهة يفتح له باب الرزق لمدة 80 يوما، فمكسبها جيد بالنسبة للبائع وقد يصل إلى 6 دولارات يوميا، لكن بشرط عدم تعرضه لمطاردات من قبل الشرطة البلدية التي قد تصادر عربته في أي وقت. فاكهة تفتح باب الرزق لمدة 80 يومافاكهة تفتح باب الرزق لمدة 80 يوما
مشاركة :