ثمانون عامًا مرَّت على سوق المنامة القديم من غير أن يلتفت إلى أساليب الحياة الحديثة ولا حتى لتطاول العمران من حوله، محتفظًا بهويته وبساطته التي اعتاد عليها شعب البحرين والسياح من جميع بقاع الأرض.. ومن لم يجرب (شاي عبدالقادر) الذي يحتفظ بروعة مذاقه منذ نصف قرن أو يزيد؟ تعد القهوة العربية جزءًا مهمًّا من الثقافة المتوارثة والنسيج الاجتماعي في البحرين، وتقدم عادة في المقاهي التقليدية حيث يجتمع عديد من المواطنين المحليين بشكل يومي لتبادل الأحاديث ومقابلة الأصدقاء والتمتع بتجربة حيوية السوق. المقاهي التقليدية في السوق بدأت عملها بتقديم القهوة العربية ثم توسعت لتشمل تقديم عروضها الفريدة الخاصة للزوار، من أول مقهى في البحرين يبتكر الآيس كريم الخاص به وحتى المقهى الذي كان إرثًا من الأجداد، والذي يعد جوهرة حقيقية يخدم المحليين في المنطقة منذ 44 عاما، ويقدم القهوة والشاي و(النخي) و(الجبود) بأسعار رمزية لا تتجاوز بضع روبيات يستطيع المتقاعدون والبسطاء الذين يجلسون في المقهى ساعات طويلة دفعها. أهالي السوق، تلقوا قبل يومين بحزن خبر إغلاق مقهى عبدالقادر الشعبي الذي يقع وسط دواعيس السوق، هذا المقهى بتاريخه العريق الذي يمتد نحو نصف قرن شكَّل على الدوام معلما تاريخيا مهما من معالم المنامة والبحرين ككل. أسباب الغلق تواصلت «أخبار الخليج» مع رجل الأعمال محمود النامليتي، وهو نائب رئيس اللجنة الأهلية لتطوير سوق المنامة القديم، الذي كشف عن أسباب إغلاق المقهى، مؤكدا أن السبب يعود إلى أن مالك العمارة التي يقع تحتها المقهى يريد هدمها وإعادة ترميمها، وهذا ما سيستغرق وقتًا طويلاً أو ربما يصبح مصير المقهى مجهولاً بعد ذلك. تجاوب سريع وسرعان ما تجاوبت الجهات الرسمية، وعلى رأسها هيئة الثقافة والآثار، حيث استقبلت الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثّقافة والآثار في مكتبها يوم أمس الخميس نائب رئيس اللّجنة الأهلية لتطوير سوق المنامة القديم محمود النّامليتي، ومُلاك مقهى عبدالقادر، بحضورِ كلّ من الشّيخ خليفة بن أحمد آل خليفة مدير إدارة الآثار والمتاحف وفريق العمل الهندسي بالهيئة. ويأتي هذا اللقاء في إطار موقف هيئة البحرين للثقافة والآثار من قرار إغلاق مقهى محمد عبدالله محمد أحمدي، المعروف باسم مقهى عبدالقادر، الواقع في وسط أزقة سوق المنامة القديم، والذي يمتد تاريخه إلى نحو نصف قرن من الزمان. وحرصًا على الهوية الثّقافية والاجتماعية للمدن التّاريخية، أكدت الشيخة مي بنت محمد آل خليفة أهمية الاعتناء بالمكونات التاريخية لسوق المنامة القديم والتجربة الإنسانية فيه، حيث تحكي المقاهي الشعبية الموجودة هناك عن قصص كثير من روادها الذين يحملون ملامح الحقبات التاريخية التي تعاقبت على هذا السوق القديم، كما شددت على ضرورة إحياء هذا الملمح الإنساني والاجتماعي من تاريخ مدينة المنامة القديمة، والعمل على إيجاد الحلول المناسبة لاستعادته ضمن المعالم التراثية لهذا البلد، بما يضمن استمرارية نشاطه في سياق الحياة اليومية لزوار سوق المنامة، مشيرةً إلى أنّ ثقافة المقاهي الشعبية وإيجادها في السياق الاجتماعي والعمراني للسوق القديم، تمثل جزءًا من هوية هذا المكان، وتعبيرًا حقيقيا عن اللقاءات الإنسانية فيه. وخصصت الشيخة مي فريقًا ليقوم بجولة ميدانية في السوق بحثًا عن مكان آخر قريب من المكان القديم للمقهى، مشيرة إلى أن الهيئة ستقدم كل الدعم والتسهيلات لبناء المقهى، سواء في مكان آخر أو إعادة فتحه في المكان القديم. وعلى صعيد متصل، أبدت أمانة العاصمة استغرابها من الإغلاق المفاجئ للمقهى من دون سابق إنذار، وأكدت أن الإغلاق لم يكن من قبل البلدية أو أي جهة رسمية، وإنما من قبل مالك العمارة نفسه، مؤكدة تقديم كل الدعم حتى يعود المقهى بحلته مرة أخرى. عبق الماضي من جانبه، عبَّر النامليتي عن بالغ شكره وتقديره للجهات الرسمية التي سارعت في احتواء الموضوع، مؤكدا أهمية مبادرة الجهات المعنية إلى التعاون مع تجار السوق والتواصل مع القائمين على المقهى وتقديم الدعم لهم، وذلك للوصول إلى حلول مرضية وإقناعهم بعدم إغلاقه، وخاصة أن هذا المقهى لا يمثل أصحابه فقط، وإنما يشكل أحد المعالم التراثية القليلة الباقية في سوق المنامة القديم. وأضاف النامليتي: «اتسم المقهى بالبساطة في أثاثه وخدمته وقائمة مشروباته، والناس الذي تعودوا على ارتياده هم من البسطاء الذين يستمتعون بكل تفاصيله، ترى وجوههم فرحة رغم أن ظروف حياتهم ليست كذلك»، وأضاف: «كان الناس يأتون إلى هذا المقهى من جميع المناطق والأعمار والخلفيات، يجتمعون تحت ظل ازرق، معتبرين هذا المكان متنفسا لكثير من المشاكل اليومية والقضايا الحياتية». وأشار النامليتي إلى أن الناس سيذكرون طويلا أصحاب المقهى، عبدالقادر، وصالح، وعبدالله، منهمكين بتوفير جو من السعادة والراحة لرواد المقهى الذين يقضون نصف اليوم في المقهى، موضحًا أن طيبة وبشاشة وجوه أصحاب المقهى تجعل رواد المقهى محبين لهذا المكان ومرتبطين به، والمميز في مقهى عبدالقادر أنه مازال محتفظًا ببساطة وعراقة الماضي وتقاليده بعيدا عن زخارف المقاهي الحديثة التي تبيع استكانة الشاي بدينار ونصف وأكثر. وعبر عدد من المرتادين عن استيائهم لإغلاق المقهى بشكل مفاجئ، حيث قال يوسف الدرازي: «فوجئنا من خبر إغلاق المقهى، ينبغي على سوق المنامة أن يكون مليئًا بالمقاهي الشعبية لأنها متنفس المتقاعدين والشياب». في حين تساءل محمد سعد بنبرة حادة: «هذه المقاهي تنقل طابع الشعب البحريني.. لماذا يغلق بهذا الشكل؟».. أما أحمد العيسى الذي اعتاد زيارة المقهى بشكل يومي، قال إن مثل هذه المقاهي تعيد إلينا ذكريات الطفولة والماضي، وفيها من عبق الماضي الكثير، علاوة على الكوميديا والضحك وترفيه النفس.
مشاركة :