يرى أن نسبة الزعامة المطلقة لأي شاعر دعوى ضخمة بحاجة لبرهانكان له صالونه الأدبيّ بجانب حضوره صالون «مقهى عبدالله» مع كبار المثقفينالشعراء يتعاونون جميعاً على إرساء القواعد لحركة التجديدالنهضة في أي عاصمة عربية هي نهضة للثقافة العربية كلها بقلم - جهاد فاضل: "حديث الاثنين، خواطر نقدية حول الأدب والفن"، كتاب صادر حديثاً عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر يضمّ بعضاً من مقالات كان ينشرها الأستاذ الكبير الراحل الدكتور عبدالقادر القط في جريدة «الأهرام»، وهي تتراوح بين النقد الأدبيّ والمسرحيّ والاجتماعيّ، وتعبّر جميعها عن حسّ ثقافي ووطني رفيع أُثر عن الناقد الراحل، وقد وضع مقدمة الكتاب ناقد وأكاديمي كبير أيضاً هو الدكتور أحمد درويش، وفيها يعرّف بالدكتور القط وبفضله على الثقافة العربية، وبخاصة في عمله الأكاديميّ، واهتمام آخر له سيكون له أبلغ الأثر في تشكيل نزعته التطبيقيّة في النقد الأدبيّ والاتّصال المُباشر بالتجارب الإبداعية المتنوّعة، هذا المجال هو مجال الصحافة الأدبية التي ظلّ اسمه مُتألقاً فيها نحو أربعين عاماً شملت معظم النصف الثاني من القرن العشرين، قضى منها نحو ثلاثين عاماً في رئاسة تحرير كُبرى المجلات الأدبية في عصره مثل مجلة «الشعر» ومجلة «المجلة» ومجلة «إبداع» ما بين عامي ١٩٦٤ و١٩٩٢، حاور خلالها عشرات التجارب الإبداعية الجديدة والراسخة، واختلف واتفق وتلقى أنواعاً من رضا المبدعين أو عدم رضاهم، ولكنه حظي في كل الحالات باحترام القارئ المثقّف العام الذي كان يتوجّه إليه بالحديث والحوار، سواء على صفحات المجلات الأدبية أو الصحف العامة الأكثر شيوعاً. عطاء واسع وإذا كان للمثقف العام، قارئاً أو مشاهداً، هذه المكانة في حواريات عبدالقادر القط النقدية، فقد كان للمثقف الخاص بالتأكيد دوره الرئيسي من خلال كتاباته الأكاديمية المتخصصة التي حظيت بأرفع مظاهر التقدير في عصره، ومن بينها حصوله على جائزة الملك فيصل في الآداب سنة ١٩٨٠، وجائزة مبارك (النيل) في مصر ٢٠٠٢، فضلاً عن جائزة الدولة التقديرية سنة ١٩٨٤، وتجلّى عطاؤه في كثير من مجالات التأليف إبداعاً في الشعر متمثلاً في ديوانه «ذكريات شباب» أو ترجمة لروائع الأعمال العالمية عند شكسبير وبوشكين وتشيخوف وغيرهم، أو تأليف حول التراث الأدبيّ القديم أو الأدب المعاصر أو دراسة للظواهر الجديدة مثل «قصيدة النثر» و«فن الترجمة»، و«فن المسرحية» أو وقوفاً أمام بعض الأعلام البارزين مثل مصطفى صادق الرافعي، وجبران خليل جبران، بالإضافة إلى ذلك كان هنالك ركن حميمي للحوار مع المثقف الخاص في حياة عبدالقادر القط تمثل في «الصالونات الأدبية»، سواء في انتمائه إلى صالون «مقهى عبدالله» الشهير في الجيزة خلال خمسينيات القرن الماضي مع لويس عوض، ورجاء النقاش، وأحمد عبدالمعطي حجازي، ومحمود السعدني وغيرهم من أدباء الجيل، أو في إدارته لصالونه الخاص في «مقهى غرناطة» بضاحية مصر الجديدة صباح يوم الجمعة من كل أسبوع في عقود عمره الأخيرة، حيث يمتدّ الحوار ويتشعب في حميمية وعمق بين الناقد وأصدقائه وتلاميذه ومريديه، وتنتفض القواعد الكامنة في بطون كتب النقد الأدبي ومؤلفاته ومترجماته لتمشي على قدمين، وتتنفس من رئتين، وتعيش بين الناس، كما ينبغي أن تكون وظيفة النقد التطبيقيّ. مقالات النقد والثقافة مقالات الأديب الكبير في الكتاب موزّعة بين النقد والثقافة والملاحظات العامة، تأخذه الغيرة على المواهب الثقافية المشتتة التي تمتصّها الأجهزة الثقافية المتعددة فتجعل من صاحبها عضواً في بعض لجانها وإدارتها ومحرراً في مجلاتها. وسرعان ما يجد المثقف الموهوب نفسه موزعاً بين ألوان مختلفة من النشاط: بعضها إداري محض، وبعضها لا يتصل اتصالاً مباشراً باختصاصه وميوله. وبرأيه، علينا أن نختار لكل من هذه المواهب ما يتناسب مع طبيعتها من عمل، وتمنح صاحبها السلطات التي تمكن من النهوض بأعباء ما يلقى عليه من مسؤولية، وبهذا نستفيد منه على خير وجه. وبعنوان «الكلام الكبير» يقول: «في الستينيات كنا نتحدث عن قوتنا، واصفين إياها بأكبر قوة في الشرق الأوسط، ثم جاء صباح الخامس من يونيو ليفتح عيوننا على حقيقة أن ذلك لم يكن إلا مجرد «كلام كبير» وخلال السنوات نفسها كنا نتكلم عن عدونا بوصفه «عصابات يهودية»، ثم جاءت الأحداث لتثبت أن هذا العدو كان شيئاً أخطر بكثير من «مجرد عصابات»، كان كلامنا مرة أخرى مجرد «كلام كبير»، وعندما نتحدث عن تاريخنا لا نستعمل لغة العلم الموضوعيّة، بل نغرق في زحمة «الكلام الكبير»، وعندما نتحدث عن واقعنا المعاصر نحشد مرة أخرى قوافل «الكلام الكبير» حتى عندما نفوز في مباراة لكرة القدم ينهمر الكلام الكبير «الفراعنة ينتصرون»، على الرغم من معرفتنا أن مستوانا في هذه اللعبة ما بين المتوسط والمتواضع».. أزمة الكتاب وتتبدّى» سماحته في صفحات كثيرة من هذا الكتاب منها ما ورد حول «أزمة الكتاب»: «ترددت في السنوات القليلة الماضية، ولا تزال تتردد في هذه الأيام، دعوى تقول بأن القاهرة لم تعد كما كانت المركز الأول لنشر الكتب في البلاد العربية، وأن بيروت توشك أن تخلفها في تلك المكانة الممتازة، إن لم تكن قد خلفتها بالفعل، ويهمنا قبل أن نناقش هذه الدعوى ونتبين حقيقتها أن نؤكّد أن أية نهضة في هذا السبيل في أية عاصمة من عواصم العالم العربي، هي نهضة للثقافة العربية كلها، وعون على التطور الفكري الذي لا بدّ منه للقومية العربية كي تقوم على أساس متين من المعرفة والأدب والفن والعلم، وأن قيام مركز ثانٍ وثالث ورابع للنشر لا يمكن أن يضير حركتنا الثقافية في الجمهورية العربية، بل هو يخدمها خدمة جليلة بتوسيعه لدائرة القرّاء وخلقه لروح المنافسة الشريفة وتقريبه - عن طريق التفاعل والتبادل- بين مفاهيم الثقافة في الوطن العربيّ الكبير». فارس النقد الأدبيّ فإذا انتقلنا إلى النقد الأدبيّ وجدنا الدكتور عبدالقادر القط فارسه المجلي وإمامه الفذّ، ففي عدة مقالات يبدي آراء شجاعة في قضايا أدبية كثيرة، منها حول ما كتبه الناقد الكبير لويس عوض عن ديوان صلاح عبدالصبور «أحلام الفارس القديم»، بعنوان «الخلاص بالموت والخلاص بالحب»، ومنها ما يتصل بتجربة عبدالصبور بوجه عام وسوى ذلك. بدأ الدكتور لويس مقالته الأولى بقوله إن الشاعر في هذا الديوان قد بلغ آية من الإبداع الفني توشك أن تؤهله لزعامة الشعر في العالم، وأنه قد تخلص مما كان يراه الناقد في ديوانيه الأولين من بعض القصور، يرى الدكتور القط «أن نسبة هذه الزعامة المطلقة لأي شاعر في هذا العصر دعوى ضخمة لا بد لها من برهان يقوم على دراسة مفصلة لتطور الشاعر الفني، وكيف تخلص من تلك العيوب التي أشار إليها الناقد، وبيان لما أتى به من جديد في ديوانه الثالث أوشك أن يبلغ به غاية الكمال، ولكن القارئ لا يكاد يظفر في المقالين بكلمة واحدة عن فنّ عبدالصبور كاستخدامه للغة ورسمه للصورة الشعرية وبنائه للقصيدة ومجازاته وتشبيهاته وموسيقاه وسائر الأدوات الفنية التي يستعين بها الشاعر لنقل تجربته، وإذا كانت دراسة هذه العناصر الفنية لازمة في نقد الشعر بوجه عام، فإنها أكثر لزوماً في الحديث عن شعر صلاح عبدالصبور بوجه خاص. فهو شاعر ينتمي إلى حركة شعرية جديدة مثار اختلاف الناس حولها: وما زال أصحابها حتى الآن يحسّون بأنهم يمارسون تجربة قابلة للنماء والتطور واختلاف الأساليب والنزعات، مما يحمل على الناقد أن يربط بالدراسة الخفية الشاملة بين شعر الشاعر الواحد من أصحاب هذه الحركة، وبين إنتاج غيره من شعرائها، وبهذه الحركة في سبيل النماء والتطور، وتصبح المقارنة أشدّ ضرورة إذا ادعى الناقد أن ذلك الشاعر قد تفوق على الشعراء جميعاً في هذا المجال حتى أوشك أن يصبح زعيماً لهم، وهذه مسؤولية لا بد أن يضطلع بها الناقد، لا أقول نحو الرهبة من الشعراء، فما أيسر أن تتمرد الرعية على هذا الحكم، ولكن نحو القارئ الذي يجلّ آراء الناقد ويلتمس عنده التوجيه السليم وسعة الثقافة. بنظر عبد القادر القط كان صلاح عبدالصبور يفرق بين الألفاظ والكلمات. فالألفاظ يمكن أن تكون مجرد أصوات يرسلها الفم فتضيع هباء في الهواء. أما الكلمات فتحمل معنى وعاطفة وإرادة وتتحول في النهاية إلى أفعال، يقول صلاح في مطلع قصيدة سمّاها الألفاظ. فليعبث خلقك بالألفاظ، الألفاظ هواء من يمسكه أو يمسكها؟ تلك الألفاظ الجوفاء! المسرحيات أما مسرحياته فلا تكاد تخلو واحدة منها من مشهد أو حوار يتحدث عن الكلمة وسلطانها في الدفاع عن الحق أو في مواجهة الباطل، ولو عاش حتى اليوم لراعه إيثار العرب الألفاظ على الكلمات واختيارهم أن يحاربوا في مواقف تحدّد مصائرهم بسلاح الألفاظ الجوفاء التي قد تصنع ضجيجاً لكنها لا تدفع شراً أو تجلب شيئاً من النصر. ويقدّم الدكتور القطّ أمثلة من أعمال عبدالصبور، ففي المشهد الأول من مسرحية «مأساة الحلاج» ترى جماعة من العابرين جسد الحلاج ممزقاً فيسألون: يا قوم من هذا الشيخ؟ ويجيب مقدم الحاضرين، أحد الفقراء.. ويمضي الحوار: هل تعرف من قتله؟ نحن القتلة هل فيكم جلّاد؟ لا، لا بأيديكم؟ بل بالكلمات.. كان هؤلاء شهود الزور الذين أغراهم ذهب السلطان وأرهبهم سيفه فشهدوا بزندقة الحلاج وقتلوه بالكلمات. وفي مسرحية «بعد أن يموت الملك» تعشق الملكة الشاعر بعد موت الملك، وتأبى أن تعود كما أُريد لها لتموت إلى جانبه، ويحس الشاعر أول الأمر بضعفه أمام رجال البلاط فهم يملكون السيف ولا سلاح له إلا الكلمات: لكن ماذا تصنع كلماتي؟ هي أهون من أن تطمح للفعل أهون من أن تغدو سيفاً أو ترساً كي تقتل أو تحمي من يقتل وتجيب الملكة: لا تبخس كلماتك ما تستأهله من قدر فالكلمة قد تفعل! لا تدري ماذا فعلت في مطلع عمري كلمات تشبه كلماتك سمعت أذناي صبياً حسّاساً ملتمع العينين ينفخ في مزمار ويغني إني أجمل ما رأت العين فغدوتُ جميلة! الشاعر والجلّاد وفي مشهد آخر، يلتقي الشاعر والجلّاد، ويطعن الشاعر الجلّاد بمزماره في عينيه، والموسيقى هي الأخرى كلمات منطلقة منغمة، فتقول الملكة وكأنها تتحدث عما يجري اليوم: أنت صرعت الجلاد وصرعت الخوف عزف المزمار نشيد الدم بينما أصبح سيف الجلاد الغاشم أعمى لا يجد طريقه لا تفقد أقدامك، جالد، أقدم سال دم بدم دع دمك الزاكي يعطي للحظة معناها الباهر في ظلمات اللامعنى السوداء انظرْ! نزف مسموم من دم جلاد مجنون بالدم ونثار نوراني من دم شاعر ما أغرب ما التقينا هذا يكتب في سفر التاريخ الخالد صفحته السوداء وهذا يكتب صفحته البيضاء. وفي مسرحية مجنون ليلى مشاهد كثيرة تدور حول الألفاظ والكلمات ومن أطرفها سخرية حسان من الألفاظ المزوقة الجوفاء. ستظل مريضاً بالأسلوب إلى أن تدهم هذا البلد المنكوب كارثة لا أسلوب لها! زعامة الشعر عبدالقادر القط لا يؤمن بزعامة الشعر، فهو يرى أنها لم يعد لها مكان في هذا العصر الذي يتعاون فيه الشعراء جميعاً على إرساء القواعد لحركة تجديد ضخمة يشارك كل شاعر فيها بنصيب بطريقته ومفهومه الخاص، وهي مع ذلك عبء جسيم على من تُلقى على كاهله من الشعراء، وبخاصة إذا كان لا يزال شاباً يتطلع إلى آفاق بعيدة من النمو والتجديد لا ينبغي أن تعوقه عنها واجبات الزعامة وتقاليدها. المسرح المصري والعربي ولا ريب أنه ينطق باسم كثير من الناس عندما يكتب عما آل إليه المسرح المصري والعربي في السنوات الأخيرة: «أذهب إلى المسرح من حين إلى حين يشدّني إليه هوى قديم ونص جديد ومخرج قدير وفنانون أعرف فيهم أصالة الموهبة وتميّز الأداء، وأقبل على دار المسرح وقد هيأت نفسي لقضاء وقت طيب يجمع بين الفن والفكر والمتعة، ثم أخرج في الكثير من الأحيان على غير ما أقبلت، متعجباً حزيناً لما آلت إليه الصلة بين المسرح والجمهور، الفنانون كما عهدتهم في الإخلاص والموهبة، وقد يكون المخرج مسرحياً كبيراً أو شاباً طموحاً من المؤمنين بالمسرح ورسالته، والمشاهدون بضع عشرات،، وحين يعتدل الميزان من حين إلى آخر ويسترد المسرح عشاقه الغائبين وتمتلئ القاعة بالمشاهدين المشدودين إلى الكلمة والحركة والأداء تشيع في القاعة حيوية غير منظورة ويتوحد المشاهدون جميعاً- على اختلاف ما يدرك كل منهم من معاني المسرحية - في معنى واحد كبير ويغادرون القاعة وقد قارب العرض بين وجدانهم وأفكارهم، وفتح بصائرهم على أمور كانوا يدركونها بالحدس أو الشعور المبهم، ثم تجسدت لهم جميعاً في كلمات محكمة وأداء بارع، هكذا غادرت المسرح مع من غادره.. في صحبة الأدباء والكتّاب الكبار يمضي القارئ أوقاتاً سعيدة غير متاحة عادة مع سواهم من الكتاب. هكذا شعرت وأنا أقرأ مقالات للدكتور عبدالقادر القط في هذا الكتاب الموجز الجميل الذي يحوي الكثير من الملاحظات النافذة التي أشرت إليها، ولكن كما تغير المسرح المصري والعربي في السنوات الأخيرة على النحو الذي وصفه في مقاله عنه، تغيّر ويا للأسف حال الأدب وحال الكتابة في زماننا الراهن، وتحولت «الكلمة» إلى «لفظة» أو «ألفاظ» تماماً كما لاحظ صلاح عبدالصبور، ولعلّ عبدالقادر القط كان من جيل كانت «الكلمة» بالنسبة إليه مدروسة ونزيهة وحرّة، وقد نقلنا آنفاً من كلماته ما يؤكّد ذلك.
مشاركة :