هناك كتب عديدة ومدارس ضخمة وجامعات ومؤسسات مقتدرة في العالم الغربي تعنى بتدريس وتكوين مختصين في كيفية قراءة العلاقات الدولية؛ وهناك في العالم منظرون اشتهرت مؤلفاتهم ونظرياتهم على مر السنين؛ ومن بين هؤلاء المفكر الأمريكي جيمس روزنو الذي كان قد حذرنا بذكاء من مغبة الاضطرابات التي قد تعيشها العديد من مناطق العالم، كما طالب بالابتعاد عن النظريات الشبيهة بنظرية هانتغتون الذي يدعي صياغة العالم في خرائط. فالعالم الحالي ليس أحادي القطب وليس ثنائي القطبين ولا متعدد الأقطاب وليس عالماً شموليًا بشكل تام ولا مجزأ إلى أبعد حد: إنه عالم، كما يكتب أستاذ العلاقات الدولية فريديرك شاريون، غير منظم في شكل حضارات وتكونه حضارة موحدة. وإذا كانت الشمولية تتجه إلى تراجع المطالبة بحق الهوية، وإذا كانت التوجهات نحو التجانس تستدعي بالمقابل دعوة خصوصية للمعنى الذي يضع القيم في قلب العمل الدولي، فلقد أضحى العالم أكثر تعقيدًا، كما يتجلى ذلك من خلال دراسة سوسيولوجية الأفراد المواطنين والمستهلكين للقيم والشعارات والذين يفرقون بين مختلف مصادر المعلومات والخطابات المتاحة. ويعرف هذا الإنتاج أزمة رباعية بوأت «الفرد المقتدر» في المقام الأول. فهي أزمة المعاصرة في البدء: حيث ينظر إلى العالم الجديد في غزة كما في كابول وفي بغداد كما في أبيدجان على أن جودة الحياة قد تدهورت، وأن الخطابات السلفية أو التي تحن إلى العصور الذهبية تجد في ذلك ضالتها. ثم إنها أزمة الاندماج، إذ تنتج الشمولية المهمشين على صعيد القارة بأسرها (القارة الإفريقية مثلاً) والذين يزيدون من حدة الأزمة السالف ذكرها، وهناك كذلك أزمة الدولة التي فقدت الوسائل التي امتلكتها آنفًا الدولة الراعية والحامية لتلبية متطلبات الضعفاء. وأخيرًا هناك أزمة تعميم النموذج الغربي الذي كان يتسم بقيم العقلانية والتقدم والذي نادى بتعميمه وبشر بفوزه جل المنظرين الغربيين بحيث يمكن تطبيقه على «دول العالم الثالث» التي عانت من مبدأ «الدول المستوردة» وأضحى اليوم موضع انتقاد. ومن هنا يطرح سؤال آخر، فهل وحدها عقلانية العلاقات الدولية هي نفسها عقلانية الغرب؟ وهل يتعين علينا اعتبار أن الغرب يجسد الحكامة الجيدة والمنطق والفعالية؟ وهل نخال أن ما يخرج عن المجالات التي تخلى عنها الغرب ينتمي بالضرورة إلى مجالات الوجدان والظلامية وعدم الكفاءة؟ وهذا ما يحصل في الدول الغربية عندما تعاقب دولة لا تعمل بتوصيات البنك الدولي.... وهكذا تفرز الدول الغربية قواعد جديدة للاحتجاج وتشجع كذلك بطريقة غير مباشرة مجالات التضامن بين هؤلاء الفاعلين. ففي كوريا الشمالية وكراكاس ودمشق وبلغراد وفي جهات أخرى تتكون جبهات. كما يحدث الشيء عينه في موسكو أو في بكين. ولعل الإفراط في تماهي المنطق غير الغربي بالمنطق المارق أو بالأحرى بالمنطق المجنون ينتج ثقافة دولية مضادة. ولا يتعلق الأمر هنا بالحتمية الثقافية المتصلبة لهانتيغتون، بل يتعلق بثقافة الاحتجاج المتغيرة والمتطورة والتي يخلقها فاعلون كثر. وانصح من أراد أن يتعمق في هذا الجانب أن يقرأ كتاب بيرتراند بدي وميشل فوشر، «نحو عالم وطني جديد»: فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب على رأس الولايات المتحدة، والعدوان الروسي على أوكرانيا، وشهية بكين في بحر الصين، والتوترات حول قضية المهاجرين، والإخفاقات الدبلوماسية في الشرق الأوسط، والأخبار الدولية تهز النظام العالمي وتزعزع الدول القومية.... فهل هذه التوترات السياسية المتعددة الأشكال دلالة على الانتقام الوطني؟ هل هناك إعادة تأكيد للحدود من جانب الدول كحصن حماية؟ أم أن ديناميات العولمة، على العكس من ذلك، تعني التآكل الحتمي للسيادة؟ هل نلاحظ «عودة الحدود» أو على العكس من ذلك «نهاية الأراضي»؟ بعد فترة المحافظين الجدد، هل «الحمى القومية الجديدة» تلاشت؟ هذا من جهة. ومن جهة أخرى غالبًا ما يتناسى البعض دور النرجسية الثقافية في فهم بعض الظواهر في العلاقات الدولية، ولعل الرجوع إلى الكتاب الأخير الذي ألفه أيمانويل تود عن الأحداث الإرهابية التي عرفتها فرنسا أكبر معبر لذلك. والكتاب يصف بذكاء وبسوسيولوجية قل نظيرها، مبدأ التسامي الفرنسي وبخاصة تسامي الطبقات الغنية على الدولة والمؤسسات والأفراد وباقي الطبقات، وهي التي كانت في الماضي تعارض الثورة الفرنسية ومبادئها وتحمل جذور الخلفية التقليدية الكاثوليكية؛ ثم إن هذا الإحساس يولد بعض التبريرات التي تحمل بذور العنف....
مشاركة :