تتصاعد الضغوط الدولية والمحلية على كل من جمهوريتي الصرب وكوسوفا للوصول إلى اتفاق لتطبيع العلاقات بينهما وإنهاء الخلافات العالقة، وفي إطار ما يسمى "حوار بروكسل" تبذل مؤسسة فريدريش ايبرت الألمانية جهودًا لإقامة جسور تواصل بين مراكز الأبحاث ومنظمات العمل المدني والسياسيين والأكاديميين في كل من صربيا وكوسوفا؛ لصياغة أجندة عمل طويلة المدى ذات أربعة سيناريوهات للوصول إلى حالة سلام دائم وشامل بين الجارتين البلقانيتين بحلول عام 2035.ويؤكد خبراء الشئون السياسية بمنطقة البلقان احتمالات تجدد الصراع المسلح بين جمهوريتي الصرب وكوسوفا ما لم تعمل دول الاتحاد الأوروبي بجدية أكبر على تأكيد التزام البلدين بنهج السلام والتعايش في بناء علاقاتهما وفقًا للمنظور الأوروبي لتحقيق الاستقرار بمنطقة البلقان.تأتي تلك الجهود في الوقت الذي تحتفل فيه جمهورية كوسوفا بعيد استقلالها العاشر هذا العام، لكن المخاوف تتصاعد في عاصمتها برشتينا من عودة أجواء الصراع المسلح مع جمهورية الصرب التي انطلقت من عاصمتها بلجراد انتقادات لاذعة لسياسات كوسوفا يرى المراقبون أن استمرارها من شأنها أن يذيب "صراعًا مجمدًا" بين برشتينا وبلجراد، ويزيد الوضع سوءًا أن بلجراد لا تزال غير معترفة باستقلال كوسوفا حتى الآن وتعتبرها إقليمًا تابعًا لها رغم زوال أي شكل من أشكال السيطرة العسكرية لبلجراد على كوسوفا منذ قصف طيران حلف شمال الأطلنطي لها في عام 1999.وبينما تعترف غالبية دول الاتحاد الأوروبى باستقلال كوسوفا وتعاملها كبلد مستقل، تتبنى روسيا سياسات داعمة لجمهورية الصرب تصل إلى درجة التحالف، واستخدمت موسكو الفيتو في مجلس الأمن الدولي لإجهاض مساعي كوسوفا للحصول على عضوية الأمم المتحدة.ويتبنى الاتحاد الأوروبي جهود وساطة من خلال ما يعرف "بحوار بروكسيل" لترطيب الأجواء بين بلجراد وبرشتينا، وهو ما أدى إلى الحد من كثير من المشكلات الإدارية التي كانت تعقِّد الحياة اليومية بين مواطني البلدين، فقد قامت جمهورية كوسوفا بتفكيك مؤسسات الدولة الصربية في شمال كوسوفا مثل المحاكم ومقارّ الشرطة، لكن بقيت المشكلة الأخطر كامنة في تباين وجهات نظر البلدين بشأن مليونين من ساكني شمال كوسوفا غالبيتهم من أصول ألبانية.ويرى سوبتيم جاشى، كبير الباحثين بمجلس الحكم الرشيد في برشتينا، أن السيناريو الأفضل لتحقيق التقارب الصربي الكوسوفى هو إنهاء أي خلافات بشأن الوضع القانوني لكوسوفا، وصولًا إلى إبرام اتفاق شامل لتطبيع العلاقات بين البلدين بحلول عام 2019 من منطلق اعتراف الصرب باستقلال كوسوفو التي سيكون عليها في المقابل دعم دخول جمهورية الصرب في عضوية الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2025.وفي المقابل تلتزم كوسوفو بعمل إصلاحات ديمقراطية شاملة وتبنّي سياسات تحرير الاقتصاد وفتح المجال السياسي والاقتصادي العام أمام الصربيين المقيمين على أراضيها، وكفالة حريات السفر والانتقال، وإصدار التأشيرات من جانب سلطاتها للصرب الراغبين في السفر إليها وفقًا لمعايير الاتحاد الأوروبى؛ وذلك تمهيدًا لانضمام كوسوفو لعضوية الاتحاد بحلول عام 2037 ، وفى حال التزام كوسوفو بذلك سيكون متعينًا على جمهورية الصرب دعم انضمام كوسوفو لعضوية الاتحاد الأوروبي بحلول هذا التاريخ والكف عن النَّيل من استقلال كوسوفو، بل واعتراف بلجراد بكوسوفو كدولة مستقلة ذات سيادة ومعترف بها دبلوماسيًّا.ويقول الخبير الكوسوفي: إن اللجوء لهذا الخيار يتضمن حزمة صعبة من الإجراءات الاقتصادية يتعين على كوسوفو والصرب اتخاذها وهو ما يتطلب حزمة موازية من المحفزات الاقتصادية والاجتماعية للتخفيف من آثار تلك الإجراءات على حياة المواطنين في كلا البلدين.لكن مِن المراقبين مَن يربطون بين إمكانية تحقق هذا السيناريو وبين قدرة زعيمي الصرب وكوسوفو على تجاوز عداءات الماضي القريب عندما كان ألكسندر فوشيتشى رئيس الصرب الحالي وزيرًا لإعلام صربيا خلال حرب كوسوفو، وكان هاشم تاكى رئيس كوسوفو الحالي من أمراء الحرب قبل عشر سنوات وزعيمًا لميليشيات "البان كوسوفو" خلال سنوات القتال مع الصرب، أما اليوم فيحاول زعيما كل من الصرب وكوسوفو تصوير نفسيهما كصانعي سلام سعيًا إلى كسب التأييد في المحافل الدولية ومعتركات السياسة، في وقت يرى فيه عدد غير قليل من المراقبين أنهما "صنيعة صراع" ويعتقدان أن مجد كل منهما ليس إلا وليد هذا الصراع.ويعانى الاقتصاد الكوسوفى اختلالات حادة في موازنته، حيث تستورد كوسوفا عشرات أضعاف ما تصدره سنويًّا ولا تعد الأوضاع في جمهورية الصرب أفضل حالًا إذ لا تتعدى معدلات نموها الاقتصادي بمعيار الناتج المحلى الكلى 2% سنويًّا، وفقًا لتقديرات مؤسسة بلومبرج العالمية التي تضع الصرب في الترتيب الحادي عشر على سلم التعاسة الاقتصادية الدولي خلال عام 2018.ولتلك الأسباب الاقتصادية ينبه خبراء الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي أطراف "حوار بروكسل" إلى أن إدراج الصرب وكوسوفو أعضاء في الاتحاد الأوروبي قد لا يكون مفيدًا للاتحاد الأوروبى؛ لأنه سيجد نفسه مضطرًّا لاستيعاب بلدين متعثرتين اقتصاديًّا يشكلان عامل ضعف وليس عامل قوة للمنظومة الأوروبية.ويعتبر المراقبون أن هذا هو السيناريو الأخطر والأسوأ الذي ينتظر كلا من بريشتينا وبلجراد ويهدد بانتهاء "حوار بروكسل" بالفشل المحقق وانتفاء حلم الانضمام الذي يراود كلا البلدين، وينبه المراقبون أنه عند ذلك قد ترتد الأمور في البلقان إلى الأسوأ عندما يخبو الأمل وتطفو حزازات الماضي مجددًا على سطح العلاقات الصربية الكوسوفية، منذرة بنشوب حرب جديدة في هذا الجزء المهم من العالم.
مشاركة :